محمد جبر الحربي
هُوَ الْوَقْتُ
نِصْفٌ عَذُولٌ،
وَنِصْفٌ خَلِيلٌ،
وَبَيْنَهُمَا يَلْتقِي الْعَاشِقَانْ.
غريبٌ هو الوقت كغربتنا في هذه الرحلة القصيرة، السريعة مهما بدت لنا بطيئة في بعض منعطفاتها ومراراتها.
ومتناقضٌ متعددٌ هو الوقت، فهو أسود وأبيض بالفطرة بما يحتويه من ليل ونهار، وقد يكون ملوناً إن نحنُ لوناه بألواننا ومزاجنا، وهو سريعٌ وبطيء، غنيٌّ وفقير، كريمٌ وبخيل، وحلوٌ ومُر.
وقيمته لنا بانتسابنا إليه، فنحن من نمنحه، ونخلع عليه هذه الصفات المحدودة بحدودنا وقدراتنا المتناهية في الصغر، مهما كبرت أعمارنا، وتشعبت الرحلة، وتعددت التجارب، لأنه هو بذاته سرمديٌّ لا نهاية له.
فهذا هو حال الإنسان وأصله وفصله مهما بلغ من قوة وسطوة، مهما اغتنى واقتنى، فنسبته تكاد تكون لا شيء بالنسبة للدهر، هي لحظة في حساب الزمن الذي هو جزء من الزمان: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} (1) سورة الإنسان.
لذلك، ومنذ البداية، كان الوقت هاجس الإنسان الأول ومحركه، فهذا الإنسان «الفاني» تحركه رغبة كامنة في الخلود، في مزيدٍ من الوقت، في طول العمر، ربما لأنه كان خالداً هناك في الجنة، وظل ذلك في جيناته، قبل أن يسلبَه الشيطان عقله، حسداً من عند نفسهِ أنْ فضَّلهُ الله عليه، ويجردَه من أعز وأثمن ما امتلك: الجنة والخلود.
لكن الحقيقة أنه أدرك بالإيمان، وبالعلم، محدودية الرحلة، فحاول حصار الوقت والإفادةِ منه لأقصى درجة ممكنة، عبر الاختراعات التي مكنته من التنقل والاتصال في أوقات قياسية بالنسبة له، لكنها ظلت في النهاية محدودة، ولو سخر الإنسان السادر في ضلالته وغَيّه، ونزعاته للشر والحروب والاستعمار، وامتلاك ما لدى الغير، لأمكنه تحقيق مزيد من النتائج في هذا المجال.
فهو قد تمكن من إرسال صواريخ حربية تفوق سرعة الصوت بأكثر من عشرة مرات..!
لكن لأدع هذا العالم بحروبه، وأعود لفضائي الخاص، حيث السلام والأشجار والحمام، حيث الشعر، والحروف في تشكلها البديعِ، والسلام.
حيث البياض وأدوات الكتابة، والروح والتأمل والأفكار، حين يبتعد الإنسان عن صراعه المرير مع الحياة، وما تفرضه عليه، فيقتطع وقتاً ليبث وجده وشكواه، أو ليبوح بأسراره وأفكاره، حزنه وفرحه، ليعري جوانب منه يجهلها الناس، وربما يكتشفها هو لأول مرة..!
كأنه جالسٌ أمام طبيبه النفسي، أو مع خليله المصطفى.
وأنا حين أكتب عن الوقت وعني، أو حسب رؤيتي هنا، كم بودي أن أقول إن علاقتي به طبيعية، كسائر البشر، لكنها لسوء حظي، أو إن تمعَّنت لحسنهِ، ليست كذلك..!
فأنا مرتبٌ بطبعي، حريصٌ على مواعيدي، لدرجة أنني قد أفقد صديقاً، أو أتنازلُ عن صفقةٍ، أو عملٍ بسببها.
لأنني يستفزني من الناس من يملكون الساعات الثمينة الفاخرة، من هم حريصون على التفنن في انتقائها، والبحث المضني عن علاماتها التجارية الفخمة، وهم لا قيمة للوقت لديهم، ولا مصداقية لمواعيدهم، كما يستفزني كذلك من لا يملكونها، ويهملونها، فلا يعيرون الساعات والوقت التفاتاً.
والناس تقول أحياناً عن الذي يفي بموعده ولا يخلفه: «مواعيده إنجليزية»، مع أن ديننا قد حدد قبل الإنجليز قيمة الوقت والموعد، حين بين أن خلف الوعد آية من آيات المنافقين وعلاماتهم، وكذلك كان الوفاء بالوعد والعهد والموعد في عاداتنا من أرفع القيم العربية الأصيلة النبيلة.!
كما حض على تدارك الوقت، واستغلاله بالعمل فقد: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} (1) سورة القمر.
المهم أنني حريصٌ على وقتي، وعلى صبحي الأول، مهما كانت الظروف والحالات، أو طال السهر، فغيابي عن الصباح، والصباح الأول مع الضوء الأول تحديداً، يعني بحسرةٍ أن يومي لم يكن لي..، أنه ضاع ببساطة، والأجمل، والمفترض طبعاً أن أكون حاضراً لاستقبال الفجر كشيخٍ مهيب، له الحق في أن ننتظر مجيئه بلهفة وحب، وأن نرحب به كما يليق بالذي جاء ليهديك السكينة والدعاء، وليقرب لك السماء، ثم ليمنحك النور والبهجة والرضى كهباتٍٍ على حسن حضورك ونجابتك واستجابتك.
وربما كنت من ندرةٍ من الشعراءِ والكتاب الذين يكتبون في الفجر، وفي ساعات الصباح الأولى، هذه الأيام.
وهذ حقيقةٌ لا مبالغة فيها:
مَا قُمْتُ إِلَّا وَكَانَ الْفَجْرُ يَنْهَمِرُ
مِنْهُ التَّجَلِّي.. وَمِنَّي الرُّوحُ وَالنَّظَرُ
كَمْ كَانَ شَيْخَاً مَهِيبَاً فِي تَلَفُّتِهِ
وَكُنُتُ طِفْلاً نَجِيبَاً.. بَاتَ يَنْتَظِرُ
النَّخْلُ وَالتِّينُ وَالزَّيْتُونُ مَوْعِدُنَا
وَالضَّوْءُ يُبْدِيْ لَنَا مَا كَانَ يَسْتَتِرُ
ذَا مَوْعِدُ الْحُبِّ مَا كُنَّا لِنُخْلِفَهُ
سِحْرُ الْبِدَايَةِ.. وَالْمُسْتَفْتَحُ النَّضِرُ
مَا لِلنِّهَايَةِ عِنْدَ الْقَلْبِ مُتَّسَعٌ
فَالْخَيْرُ زَاهٍ.. وَفِينَا عَامِرٌ دَرَرُ
لَوْلَا دِمَاهُ لَمَا كَانَتْ قَصَائِدُنَا
ضَوْءَاً يُنِيرُ وَلَا ضَاءَتْ بِهَا الدُّرَرُ
لِلْفَجْرِ مَجْلِسُ إِيمَانٍ لِمَنْ عَشِقُوا
أَهْلَاً وَدَارَاً وَأَوْطَانَاً.. وَلَمْ يَتِرُوا
هَذَا النُّهُوضُ، قِيَامُ النُّورِ أَجْنِحَةٌ
نَحْوَ السَّمَاءِ إِلَى أَنْ يُشْرِقَ الْخَبَرُ
آخَيْتُ فِيهِ الْنَّدى.. وَالْحُبُّ يَدْفَعُنِي
فَلَا أَرَانِي سِوَى.. مَا يَكْتُبُ الْقَدَرُ
وهذا لا ينفي مطلقاً أن الليلَ صاحبي أيضاً، لكنني قد أجد الفكرة، المطلع لقصيدة، أو عمل ما، ربما اكتمل العمل حينها بين الصحو والنعاس، وربما أيقظني وسهرت عليه للفجر، ولكن المراجعة، والنقد الذاتي، وإنهاء العمل يكون صباحاً.. ليكون صباحاً جديداً ملوناً رائعاً بالفعل.
وأعتقد أن الفضل في ذلك، أعني البكور والنظام، يعود لوالدي، ولأبي صلاح مصلح الحربي الذي رباني فترات متقطعة من حياتي، وبكل تأكيد أختي عائدة زوجته، ثم آخيته كابن له، وكلاهما صارمٌ في نظامه ووقته ومواعيده، فكلاهما كان ينتمي لوزارة الدفاع.
فأنا لا أذكر أنني تأخرت عن المدرسة، والحصة الأولى يوماً في حياتي، كما أنني كنت أول الحاضرين في عملي الصحفي، وهو عمل اعتاد الصحفيون فيه على الدوام المتأخر جدا، كونهم أساساً يعملون لوقتٍ متأخر ليلاً..
حتى في عملي الخاص، كنت أحضر قبل الجميع، وقد كنت أمازح السكرتير حتى يسقط من الضحك، هذا الذي يفترض أن يصل قبلي، يهيئ المكتب، ويرد على المكالمات، لكنني أصبحت سكرتيره، إذ كنت أنا من يرد على المكالمات الصباحية الباكرة، وأحياناً مكالماته الخاصة، وأنا أيضا من يصنع القهوة..
كم جميلٌ هو الصباح حين يأخذ ملامحنا وطباعنا الطيبة، أطفالاً نجباء، أم شباباً عجِلينَ مفعمين بالحيويةِ، أم شيوخاً بطيئين نخلع عليهِ بجُبٍّ عمامةَ الحكمةِ والتأمل والصبر.
وحضور الصباح، والجلوس في مجلسه الثري الملون بالمعارف والتأمل، والسكينة والسلام، يعلمك فن إدارة الوقت، وجدولته، وبالتالي كيف نثريه بما هو جميل وجديد ومفيد، حتى لو كان من باب الأنس والتسلية، ربما الرياضة، وربما مجرد الاستمتاع بالهدوء والبطء في زحمة وسرعة الحياة الحديثة.
إن ورقة بيضاء صغيرة، أو استخدام التقويم والتنبيهات على جوالك في الصباح الباكر، يصنع لك يوماً حافلاً، وستستغرب كم بإمكانك أن تنجز في يومٍ واحد، وسترى أن 24 ساعةً، مساحة واسعة من الوقت، كافية لتحقيق وإنجاز كثيرٍ من الأهداف على قائمتك، هذا إن كان لديك قائمة، لكن الجملة التي تسمعها اليوم من معظم الناس هي: «لا وقت لدي»!، مع أن لديهم فائضاً من الوقت يملأ حوض سباحة لو أراد، لكنهم لا يجيدون السباحةَ في الوقت..!
من ناحية ثانية، ونواحي الوقت لا حصر لها، تقودني مفردة الوقت إلى خلل كبير عانيناه عندما كان التعليم تعليباً، ولا زال كذلك في عقلية كثير من المسؤولين، وحتى الكتاب ممن نسبوا أنفسهم للثقافة والإبداع، وبشكل خاص من يكتبون للصحف والمجلات.
فإذا جاء الحديث عن الوقت استعادوا بيت شوقي على ما أعتقد، وأذكر وأحفظ حد الملل:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
أو تلك الجملة النثرية: «الوقتُ كالسيفِ إن لم تقطعه قطعك»
وتماماً كالمأساةِ كل عيد، وبيت المتنبي الشهير المرير، وما ذنبنا نحن بشعرٍ مريرٍ في عيد، ونحن نهنئ ونبارك، وإن حدث ذلك مرة، فمن المحزن أن يتكرر هذا الاستشهاد كل عام:
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
مع أني أميل إلى: فيهِ تجديدُ.
عموماً: أإلى هذه الدرجة نحن فقراء معرفة، وبحث، وتنويع..؟!
ألا يوجد في الشعر العربي غير هذين البيتين.. حتى نُجلَد بهما بمناسبة، وبغير مناسبة، كما نجلد بخطب الجمعة التي لا جهد فيها، والتي لا يكلف كثير من أئمة المساجد الخطباء أنفسهم عناء تهذيبها لتلامس واقع الحياة، وأرواح الشباب، وعوالمهم الجديدة، ولا أعني هنا الأدعية التي نرددها بخشوعٍ وحب، «أستغفر الرحمن من زلل»، كما لا أعني كثيراً من الأئمة جميلي الحضور والابتسامة والفهم والشرح والتبليغ من البلغاء المفوَّهين، فأنا أعني هنا التنويع في المواضيع، والتجديد في طريقة عرضها، طريقة كتابتها، والحرص على توصيلها للناس بما يلائم وقتنا هذا، ولكن لا حياة لمن تنادي..!