د. تنيضب الفايدي
اشتهر مهد الذهب الذي عُرف منذ زمن بعيد بمعدن بني سليم بعددٍ من القرى التاريخية والأودية الشهيرة، ومنها وادي أرن، حيث يخترق حرة أرن، وهو واد فحل يسيل من مرتفعات راس القرا، وبالذات من السفوح الشرقية لجبل شواحط الجبين، ويصب في قاع أرن بين حاذة وصفينة، وترفده أودية كثيرة منها: أم قرنين، المعردة، دحلة المعاشي، ومغور، ويمرّ بقرى البراقية، الصلحانية، مشوقة، أم العراد، وتعتبر شرق وادي أرن. أما قرية الحمنة والمواريد والجرنافة فهي تقع غرب وادي أرن.
قال هارون الهجري (القرن الرابع): أرن عِرضُ شرقي الحرّة منجدُ, ولبني الشريد من سُليم (منها الخنساء تماضر بن عمر الشريد) على زراع أرن عُلفى. وقال الحربي في المناسك: «إرن وادٍ لبني الشريد ولجماعة من ألفاف الناس وهو واد فيه نخل ومزارع». فأول منزل على السوارقية إرن، بينهما نحو من عشرين ميلاً ثم السوارقية. وقال الحموي في كتابه معجم البلدان: «إرن بالكسر ثم الفتح والنون: موضع في ديار بني سليم بين الأتم والسوارقية على جادة الطريق بين منازل بني سليم والمدينة». وقال البلادي في كتابه معجم معالم الحجاز: «إن أهل ارن اليوم يفتحون الهمزة ويسكنون الراء. لكن يبدو لي أن البعض يكسر الراء ولا يهمز وفيه قرى عدة منها: الصلحانية ومشوقة وأم العراد والرباعة، وكل ما اتجهت حرة أرن غرباً كثرت القرى ومن تلك القرى في وسط أرن وغربها الحمنة، المواريد والجرنافة».
ووادي أرن شهيرة بغطائها النباتي، ومن أشهر الأشجار التي تنمو على ضفافه أشجار النخيل، وأشجار السلم والسّمر والسدر، ويعرف لدى السكان المحليين باسم «النبق»، وأشجار اللال.
وقد اكتسب وادي أرن هذا الاسم من قرية تاريخية قديمة تسمى أرن، تقع جنوب شرق المدينة المنورة، قال نصر الإسكندري في كتابه الجبال والأمكنة والمياه: «موضع من ديار بني سليم بين الأتم والسّوارقيّة على جادّة الطريق بين ديارهم وبين المدينة». وقال الهمداني: «موضعٌ من ديار بني سليم بين الأتم والسّوارقيّه على جادة الطريق بين ديارهم وبين المدينة». وقال الحموي في كتابه معجم البلدان: «موضع في ديار بني سليم بين الأتم والسوارقيه على جادّة الطريق بين منازل بني سليم وبين المدينة»، قال العمراني: هو إرن بكسرتين على وزن إبل. وهكذا قال عبد المؤمن البغدادي. وفي حاشية كتاب المناسك : «إرن موضع في ديار بني سليم بين الأتم والسوارقية في جادة الطريق، ولا يزال معروفاً بهذا الاسم.
قال حمد الجاسر المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية: «إرن (بكسر الألف وكسر الراء وآخره نون وقد تفتح الألف): من قرى الصعوب من بني عبد اللّه من مطير، بمنطقة المهد في إمارة المدينة المنورة».
كانت قرى مهد الذهب وأوديتها ميداناً ممتعاً للكاتب، حيث تجوّل بين قراه منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، موجهاً ومشرفاً تربوياً، إضافةً إلى فتح عشرات المدارس بقرى المهد الحبيبة التي شغلت حيزاً وافراً من ذكرياته، وقد تكررت زيارته لقرى أرن، سواء قرى أرن الغربية مثل الحمنة أو المواريد أو الجرنافة، إضافة إلى قرى أرن الشرقية مثل الصلحانية، والبراقية ومشوقة، فكم ضاع في طرقها، وكم توقفت سيارته بين تلك القرى وجبالها، ولاسيما بين جبال أُبْلَى - بالجنوب الغربي للمهد- كما تعدد انقطاع الكاتب عن الأحياء (أي: الناس)، حيث تمضي ساعاتٌ ولا يجد من يجيبه، وكم أمضى ساعات سامراً مع بعض أهل تلك القرى الكرام ويستمع إلى قصص واقعية ويجنح أقلها إلى الخيال، ومن القرى التي لها ذكرى في وادي أرن قرية مشوقة وللكاتب ذكريات، حيث تقع قرية مِشْوِقَة في أعالي حرة (أَرِنْ وهي جزء من حرة رهاط)، وتقع هذه القرية جنوب المهد، وتتبعها إدارياً ولكنها بعيدةٌ عنها، حيث تفصلها عن المهد جبالٌ وحرار وأودية ووهاد، ومن تلك الجبال سلسلة جبال أُبْلَى، وكان من الصعوبة بمكان أن تصلها في يومٍ واحد إذا انطلقت من المدينة المنورة، ولأن إدارة التوجيه التربوي (الإشراف التربوي فيما بعد) تتابع المدارس حتى وإن كانت بعيدة فقد أتى الكاتب إليها بصحبة الأستاذ/ عبد الكريم الشققي (رحمه الله) المربي والموجه التربوي لمادة الرياضيات، وقد صعدنا إلى تلك القرية من وادٍ سحيق من أودية الحرة وكان وصولنا عصراً، علماً بأن المعلمين العاملين بها يمكثون بها الشهر والشهرين أو الفصل الدراسي كاملاً، ولاسيما من أتى معلماً من بعض الدول العربية، وذلك لصعوبة الطرق الموصلة إلى المدينة المنورة وغيرها من قرية مِشْوِقَة، بل وأغلب القرى التابعة لمنطقة المدينة المنورة ينطبق عليها ما ينطبق على مِشْوِقة، وكان التحصيل الدراسي للطلاب أفضل ومستوى أداء المعلم أكثر عمقاً؛ لأنه يصرف وقته عصراً في إعداد الدروس (التحضير)، وقد قضى تعبيد الطرق على كثير من مزايا المكوث في المكان؛ لأن أغلب المعلمين والمعلمات أصبحوا في سفر دائم فيأتون إلى المدرسة متعبين وينصرفون مبكراً (والله أعلم بمدى الإخلاص في الأداء)، وكان وصولنا إلى مِشْوِقَة شتاءً ووجدنا كامل المعلمين، وثلاثة منهم وطنيون شباب ما بين (18-22) عاماً وكان الموجه التربوي غير مرحب به في العادة، ولكنهم ولانقطاعهم المستمر فرحواقدومنا، وأعدّوا الحطب وما يلزم لإيقاد النار في الفناء الداخلي للمدرسة وبدأت سهرتنا من بعد المغرب وأخذ الحديث يتواصل وكلٌّ يدلي بدلوه وصُلّيت العشاء واستمرّ الحديث ولأنه لا توجد أي مصادر للنور فقد بدأت السماء مرصعة بالنجوم وكانت الشكوى من طول ليل الشتاء مع الغربة وكان أحد الشباب الوطنيين من المدينة المنورة قد عَقَدَ (مَلَك) والزواج في نهاية العام ونحن الآن في ربعه الأول ولايدري ماذا حدث أو يحدث في المدينة المنورة، وينطبق ذلك على زملائه ولا توجد أي وسائل للاتصال، لا في مِشْوِقة ولا في القرى القريبة منها مثل: الصلحانية والبراقية وصفينة، ولا توجد إلا المبرقات في المهد، ومن الصعوبة الوصول إلى المهد لإرسال برقية وكان كل معلم أثناء الحديث يبث شكواه، أما الشاب المقدم على الزواج فكان يطوّق يديه على (مَخَدَّة) وينثني عليها، ومهما طال الحديث (وطال السهر) فإن ليلَ مِشْوِقَةٍ أطول، ومعروف أن الليل لدى الشعراء يطول، وقد ضربت لذلك أمثلة من (محفوظاتي) فهذا امرؤ القيس قد طال ليله ومع طول الليل تأتي الهموم، ووصف نجومه كأنها موثقة بحبال (بأمراسٍ كتَّان) لا تتحرك وخاطب امرؤ القيس الليل بكل قوة بأن ينجلي، حيث قال:
وليلٍ كموجِ البحر أَرْخَى سدولُه
عليَّ بأنواع الهُمومِ لِيَبْتَلِي
فقلتُ لهُ لما تمطّى بصُلبِهِ
وأردف أعجازاً وناء بكلكلِ
ألا أيها الليلُ الطويل ألا انجلي
بصُبح وما الإصباحُ منْك بأمثَلِ
فيا لك من ليْلٍ كأنّ نجومَهُ
بأمْرَاس كتَّان إلى صُمِّ جندلِ
كما ذكرتُ لهم جزءاً من حياته ولهوه وضياع مملكة كِنْدَة على يديه، وذكرتُ لهم جزءاً من قصيدة (سويد بن أبي كاهل) كان لا يرقد الليل، وكلّما مرّ جزءٌ منه انعطف مرة أخرى، كما أن نجوم ليل الشاعر (سويد) تتحرّك ببطء كأنها تسحب سحباً مثل الإبل الظُّلع (العرجاء)، حيث يقول من قصيدة رائعة له:
فأَبيتُ الليلَ ما أَرْقُدُهُ
وبِعَيْنَيَّ إِذَا نَجمٌ طَلَعْ
وإِذَا ما قلتُ لَيْلٌ قد مَضَى
َعطَفَ الأَوَّلُ مِنهُ فَرَجَعْ
يَسْحبُ الليلُ نُجُوماً ظُلَّعاً
فَتَوَالِيهَا بَطيئاتُ التَّبَعْ
وذكرت لهم الحبّ لدى الشاعر (سويد)، حيث إن وصاله مع حبيبته واسمها رابعة يتم وفق ما يأتيه من وصالٍ:
بَسَطَتْ رَابِعَةُ الحَبْلَ لَنا
فَوَصَلْنَا الحَبلَ منها ما اتَّسَعْ
حُرَّةٌ تَجْلُو شَتِيتاً وَاضِحاً
كشُعَاعِ الشمسِ في الغَيْم سَطَعْ
صَقلَتْهُ بِقَضِيبٍ ناضِرٍ
مِنْ أَراكٍ طَيِّبٍ حتى نَصَعْ
أَبْيَضَ اللَّوْنِ لَذِيذاً طَعْمُهُ
طَيِّبَ الرِّيقِ إِذا الريقُ خَدَعْ
وقصيدته رائعة بكل ما تعنيه الكلمة، وهو شاعرٌ حكيم ومتزن، لكنّ جزءاً من بيت الشعر الذي أمامكم قد يثير بعض التساؤلات (طَيِّبَ الرِّيقِ إِذا الريقُ خَدَعْ) ما الذي أوصل الشاعر (سويد) إلى طعم الريق؟!
وقد شارك كل معلمي مِشْوِقَه في الحديث، منهم من يذكر قصة زواجه والمراحل التي مرّ بها وما زال ليلُ مِشْوِقَة طويلاً، وقد أصرّوا أن نتناول الغداء معهم وقد استجبنا بعد تمنّع، وبعد انصراف الطلاب من اليوم الثاني أتينا لهم وكان المنزل الذي يتكون من غرفتين قريباً من المدرسة، وبعضهم جلس معنا في غرفة وذهب الآخرون إلى الغرفة الأخرى أو خلفها لإعداد طعام الغداء ويأتينا صوت شريط مسجل أثناء إعداد الطعام وقد لامني الأستاذ عبد الكريم قائلاً: بأنك قد جرَّأْتَ المعلمين علينا بحديثك عن الحبّ في الليل الطويل الماضي، فقلت له: وما هي الجرأة علينا التي حدثت منهم، فقال: إنه خلال عمله الطويل لم يجرأ أحدٌ من المعلمين كما عمل هؤلاء، فقلتُ : إنهم بعيدون عنّا ويأتينا الصوت فقط وهم في عزلة تامة، وكلّ منهم له ما يشغله، كما أن هناك انقطاعاً عن الديار والأحباب، فهم يمنّون أنفسهم بأن يكون الغد أفضل، علماً بأن الكلمات التي كانوا يرددونها خلف المسجل كلمات أدبية راقية أقتطع للقرّاء والقارئات جزءاً منها:
فارحم القلب الذي يصبو إليك
وغداً تملكه بين يديك
وغداً تأتلقُ الجنةُ أنهاراً وظلا
وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولّى
وغداً نزهو فلا نعرف للغيب محلا
وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلواً.. إنما الحاضر أحلى
ذكريات قبل خمسة وثلاثين عاماً وسلامٌ على مِشْوِقََة وأهلها...