مشعل الحارثي
منذ بدء المشروع التطويري الكبير بمحافظة جدة قبل عدة شهور لإزالة الأحياء العشوائية في مقدمة لإطلالة حضارية جديدة لعروس البحر الأحمر، هاتفني مجموعة من خريجي مدارس الثغر النموذجية، مطالبين بإيصال صوتهم وندائهم لمستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، باستثناء موقع مدارس الثغر النموذجية طريق مكة من الإزالة، لكون موقعها يقع على شوارع رئيسية، وانتفت عنها العشوائية، ولما تمثله لهم من ذكريات جميلة وتاريخ عريق، أعطى صورة مشرفة لواقع ومسيرة التعليم في بلادنا فيما حظيت به من اهتمام ورعاية مؤسسها جلالة الملك فيصل -رحمه الله- وإخوانه الملوك من بعده -رحمهم الله جميعاً- حتى أصبحت مقصداً لزيارات عدد من رؤساء الدول العربية والإسلامية وأمراء الخليج وعدد من مشاهير العالم، ووزراء التعليم العرب والأجانب، والوفود الإعلامية الذين اطلعوا على منشآتها وتجهيزاتها الكبيرة، وسجلوا إعجابهم بكيفية صناعة وإعداد جيل المستقبل.
يا حقبة (الثغر) والأطلال زورينا
وجددي العهد في وجد يناجينا
ليذكر الشعر في حب مدارسنا
(مدارس الثغر) في أبهى روابينا
فالشمل يجمع أحلى الناس تربطهم
عرى الزمالة في أيام ماضينا
(مدارس الثغر) والأمجاد تعرفها
وتغرس الفن والأخلاق والدينا
وللعلم فمدارس الثغر النموذجية بجدة هي امتداد لمدرسة الطائف النموذجية، وواحدة من أهم المأثر التعليمية الخالدة لجلالة للملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- والتي لم تأخذ حقها من التعريف والإشهار والدراسة، رغم عمق تجربتها التعليمية والتربوية، وتوفر العديد من العوامل التي ساعدت على نجاحها وتميزها وهي تطوي الآن من عمرها (77) عاماً.
واذكروا (الفيصل) دوماً إنه
قدر العلم وحيا النابهين
قد أتاح العلم في معهده
للكريم الخلق والندب الرزين
وعندما نتحدث عن هذا الصرح التعليمي الكبير فإننا نتحدث عن تاريخ عريق من الريادة والسبق والأوليات والتجارب التربوية والتعليمية التي سبقت قيام وزارة المعارف (وزارة التعليم الآن)، فمثلاً في مرحلتها الأولى بالطائف ومنذ تأسست في عام 1366هـ- 1946م عرفت المدرسة المقاعد المدرسية في الوقت الذي كانت أغلب المدارس الحكومية -آنذاك- يفترش طلابها الأرض أو ما يعرف بالحنابل، وعرفت المناهج الدراسية وتدريس اللغة الإنجليزية والفرنسية، وعرفت المطعم المدرسي، والأنشطة الرياضية التي لم تعرفها البلاد -آنذاك- كلعبة تنس الطاولة وسلاح الشيش والكرة الطائرة وكرة السلة وغيرها من الألعاب الأخرى، كما عرفت السينما والنقل المدرسي والمكتبة المدرسية والفصول المثالية، وتطبيق برنامج اليوم الدراسي الكامل، وعرفت السكن الداخلي وغيرها من المزايا، إلى جانب ما كانت تمتاز به أيضاً من وجود كادر تربوي تعليمي تم اختياره بعناية وحرص كبير، وبإشراف من مؤسسها جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله-، ومتابعة نجله الأكبر سمو الأمير عبدالله الفيصل -رحمه الله- نائب النائب العام على الحجاز.
وبعد أن انتقلت المدرسة في عام 1380هـ-1960م إلى مدينة جدة أطلت على شواطئ جدة الجميلة بوجه آخر متطور، وباسم يحاكي مرحلتها الجديدة، وبصرح معماري فريد بين مدارس المملكة، ضم منشآت ضخمة وتجهيزات تم استيرادها خصيصاً من إيطاليا لمدارس الثغر النموذجية، وأضافت إلى تميزها السابق تميزاً جديداً أهلها لأن تكون في مصاف المؤسسات التعليمية بالمملكة العربية السعودية، وليست في جدة وحدها، بما طبق بها أيضاً من جملة من الانشطة والبرامج التربوية المميزة، كوجود أحدث المعامل والمختبرات التعليمية وتطبيق الزي المدرسي الموحد، وتدريس الموسيقى، ووجود الوحدات العلاجية، والمرافق والمنشآت الرياضية المتعددة من ملاعب ومسابح وصالات مغلقة، إضافة للرحلات الخارجية للطلاب المتفوقين وغيرها الكثير، إلى جانب ما كان للمدارس من استقلالية مالية وما تلاقاه من متابعة مباشرة من جلالة الملك فيصل -رحمه الله- واهتمامه الخاص بزيارتها وتفقدها سنوياً وحضور احتفالها الختامي وقيامه -رحمه الله- بتكريم المتفوقين دراسياً والمتميزين من طلابها في الأنشطة والفعاليات المدرسية كافة.
ولقد خرجت هذه المدارس وعلى امتداد مسيرتها كوكبة كبيرة من الرجال المميزين ممن تولوا أرفع المناصب القيادية في البلاد، بدءًا من أصحاب السمو الملكي الأمراء ومنهم بعض إخوة الملك فيصل وأبنائه وأصحاب المعالي الوزراء ورجال المال والأعمال والمميزين في كل ميدان من ميادين العمل والإبداع والعطاء، الذين لا يزالون يختزنون في ذاكرتهم أغلى الذكريات وأمتع الأوقات التي قضوها بين فصولها وساحاتها ومرافقها المختلفة.
يا (ثغر) يا نبع العلوم هواك في
قلبي فلن أنساك حبك في دمي
كم زادني شرفاً وفخراً أنني
(للثغر) من بين المدارس أنتمي
قد أصبحت (ثغري) الحبيبة قصة
وبها يطيب مدى الزمان ترنمي
يا (ثغر) كم من ذكريات عطرها
لما يفوح تكاد تجري في دمي
(ثغري) درست بها وفيها كان لي
ذكرى أقلبها فينطق مرسمي
فهنا اصطففت بكل صبح مشرق
وهنا وقفت لكي أخاطب اخوتي
وهناك كم أمضيت بين دفاتري
أجري التجارب جاهداً في معملي
وهناك سرت وقد اسابق خطوتي
نحو الصلاة فذاك شأن المسلم
وقبل وجود هذه المباني والمنشآت الضخمة فقد قامت هذه المدارس على أكتاف قادة من الرجال الأكفاء كانوا على قدر كبير من التأهيل واجتمعوا على التميز والعطاء المبهر، وفي مقدمتهم مديرو هذه المدارس سواء في مرحلتها الأولى بالطائف أو الثانية بجدة، ولعلي أذكر منهم الأستاذ محمود جلال الدين، الأستاذ إبراهيم عاكف، الأستاذ محمود طه أبو العلا، الأستاذ عبدالقوي بدوي، الأستاذ عبدالقادر كعكي، والتربوي القدير الأستاذ محمد فدا -رحمه الله- الذي سبق عصره كما وصفه بذلك أحد تلاميذه الأديب الراحل الأستاذ عبدالله جفري رحمه الله، والأستاذ عبدالرحمن تونسي رحمه الله، والأستاذ فؤاد أبوالخير وكيل المدارس الأسبق، والأستاذ عبدالله أشعري رحمه الله، والأستاذ الأديب الشاعر محمد إسماعيل جوهرجي رحمه الله، وغيرهم من أفراد وأعضاء الكادر التعليمي السعودي أو من الإخوة المتعاقدين من بقية الدول العربية والأوروبية والأمريكية.
ولقد شهدت الآن ركب شبابنا
يختال بالآمال بين المعهد
إن كنت سائله ومن أهدى له
هذا الطريق إلى العلا والسؤدد
ستجيب آفاق الضياء بحفلنا
هو (فيصل) العرفان خير مشيد
ومن خلال هذه الأهمية والمكانة التاريخية فإنني أضم صوتي لصوت ابناء الثغر النموذجية في إبقاء هذه المدارس وفي موقعها الرئيس كأحد الشواهد الناطقة على مآثر مؤسسها وراعيها الأول جلالة الملك فيصل -رحمه الله-، وإعادة النظر فيما تقدمت به من مقترحات لسموه الكريم قبل أكثر من عشر سنوات لتطوير هذه المدارس بشكل يتلاءم مع معطيات العصر الحاضر، وأن تقام بها قاعة تذكارية أو متحف يحمل اسم الفيصل ويضم كل المعلومات عن نشأة هذه المدرسة في مرحلتيها بالطائف وجدة، وإبراز دورها التربوي والتعليمي وجوانب تميزها المختلفة، وأسماء أبرز خريجيها والصور التاريخية لجلالته في هذه المدارس وحضوره لحفلاتها السنوية، وأن تكون هناك صالة أخرى لاجتماع سنوي لخريجيها لتوطيد عرى الأخوة والزمالة فيما بينهم والنظر لما يمكن أن يقدمونه لتطوير المدرسة والوطن بصفة عامة، خصوصاً أن معظمهم من كبار المسؤولين ورجال الدولة والمال والأعمال.
** **
* الشواهد الشعرية لكل من الشاعر الدكتور عبدالإله جدع، الشاعر الأستاذ عبدالرحمن طلب، الشاعر الأستاذ حسن مخافة، الشاعر الأستاذ عبدالحميد ربيع.