«الجزيرة» - كتب:
أصدرت هدى الغصن، كتابها: كيانٌ مطلق، ودون في أعلى صفحة الغلاف عبارة: «مذكرات»، وهي إشارة إلى ما تضمنه الكتاب من أحداث عايشتها الكاتبة في مسيرتها العملية والاجتماعية، والكتاب من القطع المتوسط ويقع في 325 صفحة، ويضم ثلاثة وعشرين فصلاً، إلى جانب مقدمة وخاتمة، وشكر وعرفان.
وتكشف المؤلفة سبب تأليف هذا الكتاب بقولها: «كنت في السابعة والأربعين، وكان لي آنذاك خمس وعشرون سنة من العمل المخلص والدؤوب في خدمة أرامكو السعودية، شركة النفط والغاز الطبيعي الوطنية السعودية، كبرى شركات العالم المنتجة للنفط, وشاهدت زملائي الرجال، ومن هم أقل مني خبرة وكفاءة، يرتقون واحداً بعد الآخر على درجات سلم الشركة إلى مواقع القرار، فيما كنت ماكثة في مكاني, كنت في مرتبة عالية، بالتأكيد، في عيون الشركة فقط، خاصة بالنسبة لوضع المرأة في تلك الفترة, لكن من منصبي مستشارة في قسم الأجور والرواتب في أرامكو، كنت أدرك أنني أمتلك إمكانات وقدرات ذهنيه تفوق متطلبات عملي، وكنت لذلك أصبو إلى مراكز أعلى في المسؤولية والنفوذ. كانت خطوتي التالية المرجوة بالطبع هي الترقية إلى منصب مدير وكالة بيانات تقدير أدائي طوال ربع قرن باستمرار، وحوافزي وحالياً عملي تحظى بأعلى تقدير. وكان ذوو المناصب العليا لا يفتأون يعربون عن احترامهم لي لكن فيما كنت أترصد أي تلميح إلى ترقية، إلا أن شيئاً لم يحدث. ترقباني كانت دائماً بطيئة وخجولة، تفقد نكهتها وزهوتها حين تصل إلى بعد طول انتظار ويعرف الجميع أنني لم أكن أثير أي ضجيج في شأن المكافآت أو العلاوات، وليس من طبعي أن أشتكي، بل كنت مقتنعة بأن جهودي تكفي في ذاتها لحصاد ثمارها، من دون أن أثير أي ضجيج، وأن قادة الشركة عادلون ويدركون كيف يکافئون جهود موظفيهم المميزة.
فقدت لا شيء. ولعل في ذلك كانت مشكلتي. كنت أرى أن الوقار يقتضي أن أترك منجزاتي وأدائي أن ينطقا نيابة عني. لكن الانتظار طال. ولم أسمع سوى كلمات شكر فق معانيها، فبقيت في وضعي كما هو سنين طويلة. وكنت أتساءل في أعماقي عن السبب المحتمل الذي كان يمنع رؤسائي ذوي البصيرة، من أن يوافوني بعرض ما؟ لقد كنا شركة دولية، سريعة الحركة، متقدمة، تنظر دائما إلى الأمام، لكن ها أنا ذي، عالقة في مصيدة الرمال المتحركة القديمة إياها من التفكير التقليدي: على النساء أن يبقين مذعنات قانتات قانعات بأوضاعهن،إذ لا وجود لنا في عالم الرجال. نحن عندهم. ويبدو قال أفلاطون «صمتك يعني الرضوخ». لم أعد أنوي الرضوخ لدفعي إلى الهامش. فلقد آن أوان إحداث ضجيج مثلما يفعل الرجال. فهم لم يصادفوا يوماً أي مشكلة في رفع صوت «الأنا» . أن هذا هو سر نجاحهم، رغم أن هذه لم تكن قناعتي. حين حملت قضيتي إلى رئيسي، يوسف (ليس هذا اسمه الحقيقي)، كان ردّ فعله العفوي، «إن إدارة الشركة تقدّر جهودك يا هدى، ولكننا نريد حمايتك من أن تتعرضي لمواقف عويصة مع أشخاص صعاب في بيئة عمل عسيرة!» واعتقدتُ يومذاك أن ما سمعته هو أكثر ما سمعتُ غباء على الإطلاق. لكن يوسف لم يقف عند ذلك الحد، بل تابع قائلاً، «القيادة مسؤولية صعبة جداً. تحتاجين إلى جلد سميك للغاية يحتمل الكثير، حتى تتمكني من التعامل بحنكة مع أناس خشنين، مراسهم صعب، وعلينا التعامل معهم يومياً». وكما لو كان لم يكتف بالتفضل عليّ بذلك النصح، أضاف، «تحلي بالصبر يا هدى، وثقي أن شأنك يهمنا كثيراً». أحتاج إلى جلد سميك؟ ألم ير هو وباقي المسؤولين كيف استعرضت جلدي السميك على مدى ربع قرن، في معالجة المشكلات وتحدي المصاعب والتعامل مع جميع أنواع البشر؟
إذن، فيم التردد؟ هل كان القصد صون صورة الشركة الذكورية؟ هل خشي القادة من أنهم، لو عينوا امرأة في منصب سلطة، قد يتعرّضون للانتقاد لمخالفتهم التيار السائد؟ أو أن ينتقدوا بأنهم لم يعثروا من حولهم على رجال أقوياء يحملون العبء؟ أو هل يستصعبون الإقرار بأن المرأة قادرة كالرجل على تحمّل المصاعب قلتُ ليوسف، «أشكر لك اهتمامك، لكن إن لم تلاحظ، لم أواجه أي مشكلة في التعامل مع رجال صعاب المراس من قبل، أكان ذلك في بيئة متسامحة أم بيئة لا هوادة فيها». وأفهمته أن المسألة الحقيقية تتعلّق برؤساء الشركة. «هل لديهم الجرأة ليتخذوا قرارات صعبة؟».
بعد عام، في ربيع 2006، استدعاني حامد، نائب رئيس الشركة لعلاقات الموظفين والتدريب، إلى مكتبه ليبلغني أنني أصبحت المديرة الجديدة لسياسة وتخطيط علاقات الموظفين، وهو اسم أبدلته فيما بعد فأصبح: سياسة وتخطيط الموارد البشرية. قال لي حامد إن المدير السابق انتقل إلى قسم آخر، وإن اسمي اختير من بين أسماء بضعة مرشحين مؤهلين، جميعهم رجال. أخيراً، تم الاعتراف بجدارتي وقدراتي القيادية.
الآن صرت مؤتمنة على مهام تصميم وتطوير وصيانة أنظمة الموارد البشرية وسياساتها في أرامكو، التي كان يعمل فيها ثلاثة وخمسون ألف موظف آنذاك، في كل أقسام الشركة، في المملكة وفي الخارج، وأصبحت مسؤولة عن خمسين مهنياً في داخل القسم الذي أديره. (زاد عدد موظفي الشركة إلى سبعة وستين ألفاً في السنوات التالية حين دأبت الشركة على توسيع عملياتها وتطويرها في المملكة وفي العالم). وهنأني حامد على سابقة الإنجاز هذه، وتمنى لي حظاً سعيداً. ونقل إلي شكر وتقدير الإدارة العليا، لكنه حذّر من أن الدرب أمامي قد ينطوي على عثرات. ولم يعرفها. قال، «سوف تشرفين على أشخاص حسّاسين، وعلى سياسات حسّاسة، من القوة ما يمكنك من مواجهة هذه التحديات». (إحدى الضحايا الأولى: أحد وسوف يبغضك بعض الرجال، وقد يحاربك آخرون، لكننا على ثقة من أن لديك الرؤساء السابقين، وكان يتوقّع أن يرتقي هو إلى منصبي الجديد، وحين سمع أنني توليت المنصب، لم يحتمل أن ترأسه امرأة، فطلب من فوره نقله إلى قسم آخر. ولم يعد يرى أي منا الآخر بعدئذ).
لم نكن بحاجة إلى المزيد من الإفصاح عن مكامن أهم تلك العثرات، إذ كان كلانا كذلك قال لي حامد، «بكونك أول امرأة تتولى المنصب، ستتجه الأنظار إليك، لذا أخبرينا إن كان ثمة ما يمكن أن نفعله لمساندتك وتسهيل مهمتك». ثم أعرب عن عاطفة، أكبرتُها فيه، حين أضاف، «هكذا يصنع التاريخ».
حين كنت صبية كنت أؤمن أن الله «الرحمن الرحيم» خلق كل الناس متساوين، لا فرق بينهم إلا بالعمل الصالح. فكنت على الرغم من حداثة سني أنفر من التعاليم الرجعية التي كان كبارنا يجزعوننا إياها، بكوننا نساء، حتى تتدنى نظرتنا واعتبارنا إلى ذواتنا، ويدخل في روعنا أن المرأة مخلوق ضعيف لا يستطيع حماية نفسه، وأن عليها أن تكرس حياتها لخدمة الرجل وإطاعته. وقيل لهن إن ذلك هو مصيرهن، فقبلنه بلا أي أثر للشك، وأصبحن متذلّلات خانعات يخضعن لمعتقدات همجية، مثل الحجة التي تمنح الزوج الحق أن يضرب زوجته. وحين كبرت، لم يتسن لي سوى أن أشهد بصمت كيف كانت النساء ينطوين تحت سيطرة الرجال ويتنازلن عن أبسط الحقوق لصوغ حياتهن. لقد رأيت بعيني الخوف والقلق ينتابان النساء من أن ينطقن بكلمة أو يتصرفن بطريقة قد تزعج أو تنفر أو تثير غضب الرجال من حولهن، بمن في ذلك أبناؤهن. فكن يتفانين في تلبية حاجات كل الذكور وطلباتهم، لضمان السلام والأمان في حياتهن. وآلمني أن أرى النساء في بيئتي، وكل امرأة في عالمي، تجرد من هويتها وتوأد طموحاتها حالما تجتاز عتبة البلوغ.
لم تكن نشأتي سيئة. فهكذا كانت الأمور تسير، ببساطة. لقد تربيت في ثقافة محافظة في عصر مقموع، حين كانت المرأة تعد مجرد ملك خاص للرجل. وعانيت التحرّش البذيء، في سن كنت فيها لتوي أفتح عيني على عالم ظننته مؤتمناً على حمايتي. ودفع بي إلى زواج مبكر في سن الخامسة عشرة، ثم كان علي أن أتحمّل عواقب كوني مطلقة، في مجتمع كان ينظر إلى المرأة المطلقة نظرة دونية، ويعدها منبوذة لا مكانة لها. وحين سرتُ في دربي الخاص، واتبعت منهجي المستقل في الحياة، انتقدت وأذنت لأنني لم أمثل دور المرأة الخانعة. وحالما تقلّدت المناصب القيادية، واجهت كثيراً من إجحاف بعض الزملاء ومقاومتهم، لأنني احتللت مراكز في الصفوف القيادية كانوا يعتقدون أنهم أحق بها مني. لكن على الرغم من العقبات، نجحت بجهدي الخاص.
لقد أتاحت لي مناصب القيادة الرفيعة التي توالت بعد ذلك، الفرص لأرفع من شأن النساء في الشركة، ومساعدتهن للمطالبة بحقوقهن التي طال انتظارها. في تلك السنوات كانت المملكة منخرطة في صدد إحداث تغيير أساسي لتحسين أوضاع المرأة؛ ومن ذلك، تمكينها من الإسهام الكامل في النماء والازدهار الاقتصادي والاجتماعي في البلد. فقد أدرك الجميع أخيراً أن تهميش نصف سكان الدولة، هو أمر محبط لاقتصاد المملكة.
وكان جهد الدولة هذا كافياً لتشجيعي على إنشاء برامج تربوية ومناهج تطوير مهنية للفتيات والنساء لتمكينهن من الإبلاء بلاءً حسناً في مسيرتهن قدماً. وكانت النساء على الإمساك وعند كل منعطف في الطريق، استنحت الفرص لتكريس أفضل ما في سيرتي المهنية للسعي من أجل المساواة والاعتراف بقدرات المرأة في داخل أرامكو، ثم عملت للمساعدة في تعميم هذه التجربة في المجتمع الأوسع من خلال المشاركة في المؤتمرات والحديث علناً عن تمكين المرأة، وتشجيع بزمام مصائرهن. كان التقدم وئيداً في البدء، لكن مع ترسيخي مصداقيتي وتوسيعي نفوذي، تعاظم تأثيري.
التمارين مصممة لتعزيز الثقة بالنفس ولإتاحة مجال كي تتمكن النساء من إطلاق العنان لقدراتهن، وإثبات قيمتهن. ولقيت ترحاباً مدهشاً - وفعَّالاً - وعزّزت بالفعل ذوات مستوى التعليم العالي أو الأولي، وحتى في جامعات البنات. مستويات الثقة بالنفس لدى ألوف النساء في الشركة وفي داخل مجتمعها.
ولست هنا أرغب في بث الانطباع بأنني كنت نوعاً من ناشطة أو من شخصية عامة في النضال من أجل حقوق المرأة. أنا لست ذلك. ولكني أفتخر بأنني أمتلك روح المحارب المسالم، ليقودني بهدوء واطمئنان إلى الخطو خطوات صغيرة، من أجل تحسين أحوالي، ومد يد العون إلى من حولي.
ولم يكن مقصدي أيضاً أن أكون محط أنظار الناس، وأجذب الانتباه العام. فمن أوجه عديدة، كان ذلك أسوأ كابوس يخطر لي. ليس لأنني لا أحب أن أكون تحت المجهر فقط؛ بل لأنني لم أكن اجتماعية النزعة، وكنت أفضل خلوتي على مخالطة الناس طول الوقت. ومرة أخرى، قد يتبيّن للمرء في بعض الأحيان، أن أسوأ كوابيسه قد تكون أعظم مواهبه.
نجحت بجهدي الخاص، ووصلت إلى أعلى منصب تنفيذي لم تتبوأه أي امرأة قبلي في تاريخ الشركة. ولم يكن منصبي هبة ولا هدية، بل كان إنجازاً سعيتُ إليه منذ طفولتي، مع أنني لم أكن أدرك كم من الحواجز سوف أصادف في طريقي. إلا أنني كنت أحس أن أمراً ما إيجابياً لم أكن أفهمه بعد، سيحدث لي يوماً ما، نتيجة لقناعتي بأنني أمتلك وحدي القدرة على تحديد مصيري.
وكتابي هذا يدور حول رحلتي في الحياة، والتجارب التي صنعت كياني المستقل الذي لا يحده زمان ولا مكان. فالعبرة من قصتي تتضمنها المسيرة، لا المحطة الأخيرة منها. حين أعلنت ترقيتي، فكرت بوالدي؛ وبوالدتي لو كانت حيَّة لتشهد بما حدث. ولكان والدي الراحل، فخوراً وسعيداً أيضاً، كما أود أن أعتقد. ذلك أن والدي - دعوني أقول لكم - كان أشد صلابة من أي شخص جلف ممن قابلهم يوسف، رئيسي السابق».
وهذا الكتاب وفق استعراضنا له يندرج ضمن السيرة الذاتية، حيث دوّنت فيه الكاتبة أحداثاً ماضية عايشتها ودوّنتها بقلمها ورافق ذلك صراحة ووضوح، حيث كشفت الغصن عن تفاصيل مهمة في سيرتها.