علي الخزيم
بالصِّغر كنت بصحبة أحد إخوتي الذي قرَّر الوقوف بسيارته لدقيقتين حسب تقديره لابتياع عبوة ماء بارد من محل للبقالة مررنا بجواره؛ غير أنه وقف وقوفاً معترضاً خاطئاً مُحتجزاً السيارات الأخرى المتوقفة بطريقة صحيحة، نزلت معه طمعاً بقطعة حلوى أو علبة (بسكوت) وهي كلمة مُشتقة من اللاتينية بمعنى المخبوز مرتين كالعك الصغير المُحلَّى والمُقرمشات، وبدأت فكرته عند الحاجة لطعام يدوم أطول مدة ممكنة، وهنا لزم التنويه أن نساء (العقِيلات) بالقصيم ونَجْد بعامة قد سبقن أوروبا فابتكرن وجبات تبقى لأطول مدة مُمكنة يحملها أزواجهن برحلاتهم التجارية مثل (الكليجا وقرص عقيل) وغيرهما، طال المكوث بالبقالة لدقائق ضعف المتوقّع خمس مرات، وعند الخروج وجدنا شيخاً مُسنّاً وقوراً متكئاً على سيارته بانتظار صاحب السيارة التي تحجزه، وكان يترنَّم بقصيدة يُسلي بها نفسه، وحين شاهدنا ابتسم موجهاً نظره إليَّ وهو يقول مداعباً: هل اشترى لك أخوك كل ما تريد؟! واعتذر له أخي عن الخطأ، فأعجبني - وأنا طفل - درسه البليغ لنا بحنكة وتجارب الكبار العقلاء (ليس كل كبير عاقل أو حكيم)، بعد سنوات من العمر امتلكت سيارة ومررت بموقف مماثل بموقف للسيارات؛ إذ كنت سأغادر المواقف بآخِر ممر بين السيارات، فصادف قدوم سيارة يقودها شاب تبدو عليه ملامح الجلافة وجفاف العبارات، فأشار إليَّ بأن أعود للخلف ليَمر، فتعجبت من قوله! وأوضحت له بأن الفرصة أقرب له أن تراجع للخلف قليلاً لأمر أنا، لأنه على رأس الممر الأوسع ثم يكمل مسيرته دون عناء، لكنه وجد الفرصة ليمارس النَّزَق والعُقد النفسية، تراجعت وأتحت له فرصة المرور، فقال رجل كان يراقب الموقف: لماذا تطاوع هذا السفيه؟ قلت له: انظر خلفك، إنه يتعارك مع شخص آخر، وقد أخرج من سيارته عصاً غليظة تُسمى (العجراء) يبدو أنها سلاحه لمثل هذه المواقف، فابتسم الرجل وقال: أحسنت، وكأنه شهد لي بحكمة التصرف، وأنا بالواقع قد تلقَّنت الدرس من الشيخ اللطيف أمام البقالة.
تذكَّرت القصة بالأمس حينما روى لي صديق موقفاً مَرَّ به منذ أيام قال: توجّهت لأحد المحلات بعد الاطلاع على إعلان ترويجي لبضاعتهم، فلم أجد صدقاً بعروضهم، وسألت العاملين فأجابوا إجابات تهريجية لا تُعبِّر عن سلوك جيّد تجاه الزبون، أو بمعنى آخر إنهم كاذبون، فغضبت وأنَّبتهم وخرجت منفعلاً وضغط دمي قد تعدى الحد المسموح به، وإذا بطفلين يمران أمامي وبين أيديهما حُلويات ومُقرمشات وهما يتضاحكان بسعادة وجَذَل واضح! فرجعت إلى ذاتي؛ وحكَّمت عقلي: هل كان تصرف المحل يناسب حدة غضبي؟ ألم تفعل كثيرٌ من المحلات والمواقع مثل هذا الإغراء الترويجي الكاذب؟ لماذا الغضب إذاً؟! لماذا لم أكن كالطفلين مستمتعاً بوقتي، محافظاً على وقاري وصحتي، واكتفي بالإبلاغ عن المحل المخادع بشكل رسمي وأريح أعصابي؟ فقد قدم لي الطفلان درساً بليغاً دون قصد منهما، وليس عيباً أن نتعلَّم من الصغار فهم الأطهر والأنقى إذا لم تتعمَّد بيئتهم الأسرية تلويث عقولهم ومفاهيمهم بما يُعشعِش بعقول كبارهم من أضغان وأدران نفسية مَقِيتة.