خالد أحمد عثمان
فرضت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي عقوبات هائلة على روسيا جزاء وفاقاً لتدخلها العسكري في أوكرانيا. ويكاد يجمع المراقبون أن هذه العقوبات شديدة القسوة ولم يسبق أن تعرضت روسيا لمثلها. ومعظم هذه العقوبات اقتصادية، وبعضها عقوبات إعلامية وثقافية ورياضية، حتى القطط الروسية لم تسلم من العقوبات إذ أعلن الاتحاد الدولي للقطط منع استيراد أي قطة تمت تربيتها في روسيا ومنع القطط الروسية من المشاركة في مسابقاته الدولية وتخصيص مبالغ مالية لدعم القطط الأوكرانية (نكاية في القطط الروسية!!). واتهم ديمتري بيسكون، المتحدث باسم الكرملين الغرب بأنه يشن فعلياً حرباً اقتصادية ضد روسيا وحذر بأن بلاده ستتخذ إجراءات مضادة.
في هذا المقال نسلط بعض الضوء على استخدام النفط والغاز كسلاح اقتصادي في هذا الصراع الدولي. ونوجز القول في هذا الشأن على النحو التالي:
أولاً: نشير في البداية إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عرض في ديسمبر 2005 على مجلس الأمن القومي الروسي خطة استراتيجية تتضمن مشروع النهوض بروسيا واستعادة مكانتها الدولية كقوة عظمى من خلال الطاقة، فروسيا تملك احتياطات هائلة من النفط والغاز فهي أكبر منتج ومصدر للغاز في العالم وثاني أكبر مصدر للنفط في العالم بعد السعودية وطبقاً لتصريح وزير الموارد الطبيعية الروسية بردونسكوي أن احتياط روسيا من النفط يبلغ نحو (129.9) مليار برميل بينما يبلغ احتياط الغاز (48.8) تريليون متر مكعب، وتصدر روسيا يومياً حوالي 7 ملايين برميل من النفط والمنتجات النفطية تعادل 7 في المائة من الإمدادات العالمية، وتجني روسيا من بيع النفط والغاز اكثر من 700 مليون دولار أمريكي يومياً.
ولتدعيم مكانتها الدولية وحماية مصالحها الوطنية في مجال الطاقة فقد قادت روسيا الجهود لتأسيس «منتدى الدول المصدرة للغاز» الذي تحول إلى منظمة دولية بموجب اتفاقية أبرمت بين الدول الأعضاء في موسكو في 22 ديسمبر 2008. كما قادت مع السعودية إنشاء التجمع النفطي الدولي المعروف إعلامياً باسم «أوبك بلس» الذي أصبح يؤدي دوراً مهماً في صنع توازن السوق الدولية للنفط.
ثانياً: تستورد أوروبا من روسيا نحو 40 في المائة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي و33 في المائة من احتياجاتها من النفط بينما واردات الولايات المتحدة من النفط الخام والمشتقات النفطية من روسيا شكلت 8 في المائة من إجمالي الواردات النفطية للولايات المتحدة في سنة 2021.
ثالثا: اختلفت مواقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية حيال إدخال النفط والغاز الروسيين ضمن المقاطعة الاقتصادية بسبب اختلاف المصالح في هذا الشأن. إذ أعلن الرئيس الأمريكي جون بايدن في 8 مارس 2022 حظر استيراد النفط الخام والغاز والفحم والمشتقات النفطية من روسيا بينما أعلنت بريطانيا أنه ستوقف استيراد النفط والغاز من روسيا تدريجياً إلى أن يتم وقفه بالكامل بحلول نهاية عام 2022، وبررت ذلك بأنها تريد منح السوق والشركات وقتاً أكبر لإيجاد بدائل للواردات الروسية التي تشكل نحو 8 في المائة من الطلب، بينما امتنعت دول الاتحاد الأوروبي حتى الآن عن حظر استيراد النفط والغاز من روسيا لأن أوروبا لا تستطيع الاستغناء عن واردات الطاقة الروسية خصوصاً الغاز. وإذا أرادت هذه الدول الاستغناء عن واردات الطاقة الروسية فعليها الانتظار سنوات عديدة إلى أن تتمكن من إنشاء بنى تحتية لنقل الغاز من مصادر أخرى بيد أن ألمانيا قررت – تحت الضغط الأمريكي – تعليق الموافقة على تشغيل خط أنابيب الغاز الروسي (تورد ستريم 2) لحين إشعار آخر.
ويعد هذا المشروع من المشروعات الحيوية لكلا الدولتين لأنه ينقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق وتشغيله سيلبي نحو ثلث الطلب المستقبلي للغاز للاتحاد الأوروبي وبتكلفة أقل من 25 في المائة عن تكلفة استيراده الحالية لكونه يربط روسيا مباشرة بألمانيا عبر بحر البلطيق، مما يقلل الاعتماد على أنابيب نقل الغاز عبر أوكرانيا. وقد بلغت تكلفة إنشاء هذا المشروع نحو 11 مليار دولار، ولا شك أن تعليق الموافقة على تشغيله سيلحق أضراراً كبيرة بالشركات الروسية والأوروبية المساهمة في هذا المشروع، وبتعليق هذا المشروع تبقى معظم واردات دول الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي تأتي عبر خطوط الأنابيب العابرة لأوكرانيا.
رابعاً: هنا تجدر الإشارة إلى أن العقوبات الغربية التي شملت إخراج روسيا من النظام العالمي للتحويلات المصرفية (سويفت) استثنت منه البنوك التي تستخدمها الشركات العاملة في مجال النفط والغاز في روسيا، وهذا الاستثناء مهم لتسهيل استمرار تدفق النفط والغاز من روسيا إلى دول الاتحاد الأوروبي كما أنه مهم لتسيير حصول روسيا على إيرادات مبيعاتها من النفط والغاز.
خامساً: في 15 مارس 2022 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على روسيا تضمنت حظر الاستثمارات في قطاع الطاقة الروسي ولكن لا يزال بإمكان دول الاتحاد شراء النفط والغاز من روسيا، وفي سبيل البحث عن بدائل لموارد الطاقة الروسية كانت الجزائر محل التفكير الأوروبي فهي ثالث اكبر مصدر للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج وتملك احتياطات ضخمة من الغاز وقريبة من أوروبا وبالتالي يكون الغاز الجزائري هو البديل المناسب للغاز الروسي، لكن الجزائر ليس لديها إمكانية زيادة كميات الغاز التي تصدرها إلى أوروبا.
وحذر وزير الاقتصاد الألماني أنه إذا تقلصت الإمدادات من روسيا أو انقطعت فلن يكون لدى ألمانيا ما يكفي من الغاز لإبقاء جميع المنازل دافئة وتشغيل جميع المصانع.
ولذلك مازالت ألمانيا تعارض فرض حظر شامل على استيراد النفط والغاز من روسيا والذي تطالب به بعض دول الاتحاد الأوربي مثل بولندا.
سادساً: بدأت أسعار النفط في الصعود مع بداية أزمة أوكرانيا وقبل التدخل العسكري الروسي إذ وصل خام برنت إلى نحو (130) دولاراً أمريكياً، وبعد الحظر الأمريكي ارتفعت أسعار العقود الآجلة لخام برنت فوصلت إلى (139) دولاراً أمريكياً للبرميل بينما وصلت أسعار العقود الآجلة لخام تكساس الأمريكية إلى (125) دولارً أمريكياً للبرميل بينما سجل سعر سلة أوبك (127) دولاراً أمريكياً للبرميل. ثم أخذت الأسعار تتذبذب صعوداً وهبوطاً بحسب مستجدات الصراع الدائر بين روسيا والغرب حول أوكرانيا. علماً بأن روسيا سبق أن حذرت على لسان ألكسندر نوفاك نائب رئيس الوزراء الروسي بأن فرض الغرب عقوبات على صادرات النفط الروسي سيدفع سعر البرميل إلى (300) دولار.
سابعاً: في تقدير بعض الخبراء إذا قررت روسيا خفض إنتاجها من النفط والغاز تخفيضاً كبيراً أو قرر الاتحاد الأوروبي فرض حظر كامل على استيراد النفط والغاز من روسيا فإن الخاسر الأكبر سيكون على الأرجح أوروبا لأن روسيا ستعوض خسارتها من تخفيض أو حظر صادراتها من الزيادة الكبيرة المتوقعة في أسعار النفط والغاز.
ثامناً: لتهدئة أسواق النفط وكبح جماح الأسعار من مواصلة الصعود حاول الرئيس الأمريكي جو بايدن إقناع السعودية وبعض دول الخليج العربي زيادة الإنتاج إلا أن هذه الدول ترى أن ارتفاع أسعار النفط لم يكن بسبب نقص المعروض بل بسبب التوترات والمخاطر الجنوسياسية وإن (أوبك بلس) متفقة على الزيادة الشهرية منذ أغسطس الماضي وقدرها (400) ألف برميل يومياً وإن هذا الإجراء هو أفضل الحلول ملائمة لكل الأطراف في ظل ظروف السوق الراهنة.
وظهر الموقف السعودي في هذا الشأن جلياً في ثلاث مناسبات، الأولى الاتصال الهاتفي بين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس جون بايدن في 9 نوفمبر 2022 حيث أكد الملك سلمان على أهمية الحفاظ على توازن أسواق النفط واستقرارها ودور اتفاق (أوبك بلس) التاريخي في ذلك. والمناسبة الثانية جاءت في البيان الصادر عن جلسة مجلس الوزراء السعودي برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز التي انعقدت في يوم الثلاثاء 1 مارس 2022، إذ ورد فيه النص التالي:
إن مجلس الوزراء اطلع على فحوى الاتصال الهاتفي الذي تلقاه ولي العهد من الرئيس إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا، وما جرى خلاله من بحث المستجدات الإقليمية والدولية ولاسيما الأوضاع في أوكرانيا وأثرها في أسواق الطاقة وتأكيد المملكة حرصها على استقرار أسواق البترول وتوازنها والتزامها باتفاق أوبك بلس).
والمناسبة الثالثة كانت خلال الاتصال الهاتفي الذي جرى في 17 مارس 2022 بين الأمير محمد سلمان ولي العهد ورئيس الوزراء الياباني فومبو كيشيدا حيث جدد سموه حرص المملكة على المحافظة على توازن أسواق البترول واستقرارها منوهاً بدور اتفاق (أوبك بلس) ذلك وأهمية المحافظة عليه.
تاسعاً: تدرس الولايات المتحدة فكرة تخفيف العقوبات المفروضة على النفط الفنزويلي لعل إعادة دخوله الأسواق الأمريكية يسهم في سد أي نقص محتمل في الإمدادات وكبح صعود الأسعار.
عاشراً: بعد هذا الاستعراض السريع لأبرز وقائع هذا الموضوع ننتقل إلى الإشارة إلى موقف القانون الدولي العام من استخدام النفط والغاز كسلاح اقتصادي بسبب أزمة أوكرانيا فنقول إنه طبقاً للقواعد المستقرة في هذا القانون لكل دولة الحق المطلق في إقامة علاقات اقتصادية أو غير اقتصادية مع أي دولة أخرى أو أن تمارس ضدها أي نوع من أنواع المقاطعة كإجراء مضاد لتصرفات معادية من الطرف الآخر أو لانتهاك قواعد قانونية دولية مستقرة وتبعاً لذلك فإن الدولة لا تلزم بتصدير المواد الخام أو المنتجات والسلع لدولة أخرى أو الاستيراد منها إلا في حالة وجود التزام اتفاقي محدد. والعلاقات التجارية الدولية أصبحت في وقتنا الحاضر محكومة باتفاقيات منظمة التجارة العالمية. ولذلك فإن مشروعية العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية على روسيا قد تكون محل نظر في ضوء أحكام اتفاقيات منظمة التجارة العالمية بيد أن تجارة النفط والغاز لا تخضع لأحكام اتفاقيات هذه المنظمة وتبعاً لذلك لا تترتب أي مسؤولية على الدول التي تحظر تصدير النفط والغاز إلى دولة أو دول معينة أو تحظر استيراد النفط والغاز من هذه الدول وبالتالي لا تخضع المنازعات الدولية حول حظر تصدير واستيراد النفط والغاز لإجراءات تسوية المنازعات المقررة في إطار منظمة التجارة العالمية.
حادي عشر: أما بخصوص زيادة إنتاج النفط والغاز لتعويض النقص في المعروض بسبب حظر الاستيراد من روسيا فإنه يجب التفرقة من الناحية القانونية بين النفط والغاز. فمعظم الإمدادات العالمية من النفط يخضع لاتفاق (أوبك بلس)، وهذا الاتفاق ملزم لأطرافه ولم تعلن أي دولة من أعضاء هذا التجمع النفطي الانسحاب منه.
أما الغاز فإن الرئيس الروسي بوتين صرح قبل التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا أن روسيا ستواصل شحنات الغاز إلى الأسواق العالمية دون انقطاع، كما أن وزير الطاقة الروسي نيكولاي شولجينوف صرح بأن الشركات الروسية ملتزمة التزاماً كاملاً بالعقود القائمة.
وفي حال حظر الاتحاد الأوروبي استيراد الغاز الروسي فإنه قد يترتب على ذلك مشكلات قانونية لأن العقود الأوروبية لشراء الغاز من شركة (غاز بروم) الحكومية الروسية هي عقود طويلة الأجل حتى عام 2040 وذلك فإن الحظر سيؤدي إلى فسخ هذه العقود أو تعليق تنفيذها قبل انتهاء أجلها مما سيثير المسؤولية التعاقدية للأطراف الأوروبية ومطالبة الجانب الروسي لها بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به جراء فسخ أو وقف تنفيذ هذه العقود.
ومن ناحية أخرى فإنه في حال حدوث نقص في الإمدادات إن أقدمت دول الاتحاد الأوروبي على حظر استيراد الغاز الروسي فإن اتفاقية تأسيس منتدى الدول المصدرة للغاز وإن كانت لا تلزم الدول أعضاء المنتدى التضامن مع أي دولة عضو تتعرض صادراتها من الغاز إلى مقاطعة من قبل دول أخرى وبالتالي لا تلزم الدول الأعضاء بعدم زيادة الإنتاج لسد النقص في الإمدادات. إلا أنه من الصعب أن تستطيع هذه الدول سد هذا النقص وقد أكد ذلك مؤتمر قمة دول هذا المنتدى الذي انعقد في الدوحة بتاريخ 22 فبراير 2022، كما أن وزير الطاقة القطري سعد الكعبي أكد أن بلاده لا تستطيع بمفردها أن تعوض هذا النقص مضيفاً أن أغلب الغاز الطبيعي القطري المسال مرتبط بعقود طويلة الأجل ووجهات واضحة. وهذا يعني أن قطر لا تستطيع الإخلال بالتزاماتها التعاقدية حيال مشتري الغاز القطري.
** **
محام - وكاتب سعودي