اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
التعريض في اللغة والاصطلاح هو أن تقول كلاماً لا تُصرِّح بما تريده من خلاله، بحيث تتكلم عن المقصود بلفظ غير واضح أو إيراد ما تريده بلفظ يحتمل أكثر من معنى، كأن تذكر شيئاً للدلالة على شيء لم تذكره، مثل ذكر صفة سيئة على سبيل التعريض لكي يتجنبها الطرف الآخر، أو تضرب له مثلاً لعله يتعظ منه.
والتعريض يشمل أسلوباً تربوياً، ومنهجاً نبوياً، وضرباً من ضروب البلاغة، وفناً من فنون الكلام وحسن التعامل، حيث يُلمِّح المتكلم إلى ما يريده تلميحاً ذكياً، ويشير إليه إشارة خفية ذات دلالات غير ظاهرة، تجعله يصل إلى هدفه من أقصر الطرق، وهو في سعة من مثالب وعيوب التصريح مع طبع كلامه بطابع بلاغي ينم عن فهم واسع وفكر عميق.
والمتكلم عندما يلجأ إلى التعريض فإنه يتكلم بكلام مبهم يتضمن الإشارة إلى ما يريده عن طريق المفهوم دون أن يكون لهذه الإشارة وما تدل عليه ذكر واضح أثناء الكلام، مكتفياً بالتلميح إلى مقصده والتعريض بمراده من خلال ما بال أقوام والكلام الجانبي وقرائن الحال والإيحاء والتورية المباحة، وكل ما ينطبق عليه مفهوم التعريض من الأفعال والأقوال المشروعة بعيداً عن تعمد الكذب والخداع والحيل الماكرة والخروج عن الضوابط الضابطة للتعريض، وقد ورد في الأثر: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب.
ويتضح مما سبق أن التعريض هو الإشارة بالقول إلى الموضوع المراد التعريض به من طرف خفي، وهو فن لا يجيده إلا من يحترم الكلمة ويحسن توظيفها بشكل يعتمد على الرمزية والتلميح بدلاً من التصريح بحيث يقول قولاً يدل على ما يريد ودلالته في الباطن ليس لها ذكر في الظاهر.
وبما أن قيمة الكلام تُعرف من قيمة المتكلم والمرء يعرف من كلامه فإن الذي يجيد فن التعريض عادة ما يحرص على إيراد تعريضه في صورة صحيحة، ويضعه في قالب مقبول بالنسبة للطرف المستهدف، كما يراعي مستوى المتلقي أو القارئ ومدى قدرتهما على فهم ما يرمي إليه، مختاراً الزمان والمكان، ومستخدما لغة بسيطة واضحة ذات معان وأفكار قريبة إلى الفهم، تساعد على حل رموز التعريض وقراءة ما بين السطور.
والتعريض يكون على شكل صور متنوعة وحالات مختلفة فتارة يكون بالتلميح، وتارة ثانية يكون بالإيحاء، وتارة ثالثة يكون بالتعميم وما بال أقوام وتارة رابعة يكون بالتورية ويتم اللجوء إليه تفادياً للتشهير والإساءة إلى الغير.
والمحمود من التعريض ما كان لجلب الحق وحجب الباطل ودعت إليه الحاجة وتحقق له الضابط الذي يجوز معه استخدام أسلوب التعريض، وهو الأمر المباح والمشروع إخفاؤه لسبب، أما ما يلزم بيانه فالتعريض فيه لا يجوز لأنه تدليس وكتمان للحق يحرم التعريض فيه، وهناك شواهد قرآنية تؤيد ذلك من خلال التعريض بالكافرين الذين لم يتعظوا بالآيات ولم يحسبوا حساباً لما ينتظرهم من مآلات، كما في قوله عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.
والهدي النبوي يحث على التعريض في كيفيته الصالحة وصيغته الناصحة التي تنصح ولا تفضح، وتدعو إلى حفظ السر والستر والرفق والبعد عن التشهير، كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يوضح خطأ المخطئ، وينصحه ولا يُشهّر به، مستخدماً أسلوب التعميم الناصح بدلاً من التخصيص الفاضح حيث يذكر الخطأ ولا يذكر المخطئ، مستبدلاً ذلك بالقول ما بال أقوام يفعلون هذا الفعل، مشيراً إلى الفعل دون أن يشير إلى فاعله، ومكتفياً بالتعريض والتلميح الذي يقوم مقام التصريح، وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال معرِّضاً بأحد العمال: ما بال العامل نبعثه فيقول هذا لك وهذا لي؟. فهلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، ثم رفع يديه ألا هل بلغت.
وفي موقف من مواقف التعريض أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخاطب شريحة من الذين يتعالون بأنسابهم، منكراً عليهم التفاضل بالآباء والأجداد وهضم حق مّنْ ينظرون إليه نظرة دونية، موضحاً لهم خطورة هذا الأمر وأن فيه هلاكهم، وذلك باستخدام الأسلوب النبوي: ما بال أقوام، قائلاً لهم: أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
والإيحاء يدخل في مفهوم التعريض وهو إيصال الفكرة إلى السامع بشكل غير مباشر على هيئة قصة أو تعريض، ويكون ذلك إما بلسان المقال أو بواقع الحال، وهو من أنجع الأساليب وأنجحها في الوعظ والنصيحة عندما يتحلى الموحي أو الواعظ بالحكمة، مستخدما الأسلوب المناسب ومراعياً الفروق الفردية والدواعي الداعية لتنِّوع أساليب التعريض، وما يسبق تلك التي لها طابع نفسي ومعنوي من تسليط الضوء على عوامل الإثارة الإيجابية والمناقب والأوصاف الجميلة، ومن أمثلة ذلك مدح الرسول صلى الله عليه وسلم لسهيل بن عمرو قبل إسلامه حيث قال: من لقي سهيلاً بن عمرو فلا يشد النظر إليه، فلعمري أن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافع، فلما بلغت هذه المقولة سهيلاً لم تأخذه الأنفة الممقوتة والعزة بالإثم بل قال: كان والله براً صغيراً وبراً كبيراً فأسلم وخرج وشهد حنين.
والإيحاء يستمد قيمته عندما يراعي الموحي مجالات استخدام أسلوبه ولزوميات نجاحه، مركزاً على الفروق الفردية بين المتلقين والتنويع في الأسلوب المتبع كلما دعت الحاجة إلى ذلك فأحياناً يوحي بالقول وأحياناً بالفعل مع الحرص على الستر والمحافظة على الكرامة، وذكر محاسن أصحاب المحاسن لحثهم على قبول الموعظة والانصراف من الرذيلة إلى الفضيلة ومن أمثلة الإيحاء العملي أن يخفي المحارب نيته ويظهر لعدوه عكس ما يريده إيهاماً له وصرفاً لانتباهه، ثم ينقض عليه على حين غفلة من أمره ويُكرُّ عليه وهو آمن، وكذلك استعراض القوة أمام العدو لإرهابه وإفساد نواياه ومخططاته.
والتورية في اللغة هي إخفاء الشيء، واصطلاحاً هي أن يتكلم المتكلم كلاماً يفهم السامع منه غير ما يقصد المتكلم الذي يريد معنىً آخر ينطوي عليه الكلام وينطبق عليه مفهوم التعريض، وتعد التورية من الأمور المشروعة لتجنب الوقوع في الحرج عندما يُسأل المرء عن أمر لا يرغب البوح به، ويجد في التعريض مخرجاً من الكذب حيث إن مشروعية التورية تتوقف على الضرورة والحاجة الملحة إليها طالما لا مندوحة عنها إلا بالكذب، وثمة حالات أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم فيها باستخدام هذه الأسلوب، ومنها أن المرء إذا ما أحدث في صلاة الجماعة فعليه أن يضع يده على أنفه ثم يخرج معطياً انطباعاً بأنه يعاني نزيفاً من أنفه، ومن دواعي التورية أن المرء إذا ما حصل له ظروف قاهرة يحتاج فيها إلى الكذب فالمخرج أمامه هو التورية.
ومطلوب من الذي يريد أن يوهم غيره بشأن أمر يكره أن يصرح به له أن يلجأ إلى المعاريض المتاحة التي تحول بينه وبين الكذب شريطة أن يتوافر الضابط الذي يضبط كلامه بفضل امتلاكه للعلم والحلم والحكمة وحرصه على ستر المُعرَّض به والبعد عن التشهير به والإساءة إليه، والتعريض ركن أساسي من أركان الكلام العربي والأمثلة عليه كثيرة في القرآن والسنة والنثر والشعر.
وفي الختام فإن الدعوة إلى الخير والموعظة ذات الطابع الخطابي والمستوى الجماعي لا تخرج دائماً النصيحة فيها عن إطار التعريض المتمثل فيما بال أقوام مع مراعاة الفروق الفردية بين المتلقين والأسلوب المتبع بالنسبة للداعية والواعظ، أما النصيحة الفردية فكما هو معروف ينبغي أن تكون في السر لتؤتي أكلها وتطرح ثمارها ويستقيم مسارها، ورغم ذلك فإن من طبع الإنسان مقاومة النصيحة والبحث عن عيوب الناصح، الأمر الذي يتطلب في حالات معينة أن تكون النصيحة على هيئة تعريض، تجنباً لصدمة المجابهة والمواجهة ومردودها السلبي شريطة أن يجيد الناصح أسلوب التعريض لكي يفهم المنصوح ما هو المطلوب، وقد قال الشافعي: ما نصحت شخصاً قط إلا وجدته يفتش عن عيوبي.