تأخر الأستاذ مشاري (الرئيس التنفيذي لمؤسسة طوايا للاستشارات الهندسية) عن موعد خروجه المعتاد من المؤسسة، حيث كان ينتظر الدكتور فيصل الذي يعمل مع الأستاذ مشاري موجهاً ومستشاراً (كوتش)، بالإضافة إلى عمله الأكاديمي. وصل الدكتور فيصل في موعده، وبعد التحية والسلام. بدأ الأستاذ. مشاري بعرض المشكلة التي يرغب في الحصول على توجيهات من الدكتور فيصل حيالها. وقال: يعمل لدينا في المؤسسة، المهندس نواف، ويشرف على عدد من المشاريع المختلفة وبشكل متميز ودقيق، إلا أنه في الآونة الأخيرة بدأ يتأخر عن العمل وانخفض مستوى إنجازه بشكل كبير عن السابق، والآن أمامي توصية من الموارد البشرية بعدم تجديد عقده.
فسأل د. فيصل: متى بدأ هذا التغير؟.
فرد عليه أ. مشاري: قبل أقل من سنة كان هناك مشروع شقق سكنية يشرف عليه المهندس نواف وكان هناك تأخير بتسليم المشروع. وقد حصل أخذٌ وردٌ مع الشركة المنفذة ومع مالك المشروع وتم الاتفاق على حل وسط، وانتهى الأمر. ومع ذلك كان المهندس نواف يثير هذه المشكلة فيما بعد ويعيد النقاش والتحليل خلال الاجتماعات، حتى مللنا من هذا الموضوع.
فسأل الدكتور فيصل: هل يوجد خطأ من المهندس خلال الإشراف، تسبب من خلاله بتأخير المشروع؟
فرد الأستاذ: مشاري: كان هناك تدقيق من المهندس خلال العمل أكثر من اللازم، وقد يكون ذلك سببا في التأخير، لكن الأمر انتهى، ولم يتعرض لأي عقوبة او حتى تأنيب. وفي المشاريع اللاحقة بدأ في الإهمال وإثارة المشاكل حتى تسبب في خسائر وبطء في تنفيذ المشاريع اللاحقة وبشكل ملحوظ. وتم تنبيهه أكثر من مرة، وقد تواصلت معه، للاستفسار عن وجود مشاكل صحية أوعائلية لديه فأجاب بالنفي.
فرد الدكتور فيصل: المشكلة التي أتوقع أنها موجودة عن المهندس نواف هي التفكير المفرط. دعني أوضح لك بعض النقاط المهمة في هذا النوع من التفكير، وكيف يصل بنا إن لم نعالجه إلى مشاكل وخيمة. فعندما نواجه قرارًا مهمًا، مثل اختيار جامعة، أو وظيفة، أو شراء سيارة، أو الزواج أو الطلاق، ربما نفكر مليًا في النتائج المحتملة. وهذا منطقي للغاية، فكل ما يتعلق بمتطلبات الحياة المعيشية أو الارتباطات الدائمة يتطلب تخطيطا مدروسا وشاملا. ومع ذلك، نجد أنفسنا في بعض الأحيان نقلب كل فكرة مرة تلو الأخرى في عقولنا. وقد يكون ذلك حتى في الخيارات الصغيرة ونتساءل عن (ماذا لو) لدرجة الجمود، ثم التقاعس عن العمل. وهذا السلوك يسميه الخبراء: التفكير المفرط. من الطبيعي أن نفكر في خطواتنا القادمة، ولكن الإفراط في التفكير، يمكن أن يبدأ في مقاطعة النوم أو العمل أو العلاقات الاجتماعية، وقد يؤثر على الصحة أو جوانب أخرى من الحياة اليومية. وينقسم الإفراط في التفكير عادةً إلى فئتين: وهما اجترار الماضي أو القلق بشأن المستقبل.
ومن يعاني من الإفراط في التفكير، قد يشعر بالعجز أو أنه غير قادر على اتخاذ أي إجراء على الإطلاق. وقد يصعب عليه كذلك إزاحة تلك الأفكار من عقله، أو الانتقال من التركيز في أمر ما، إلى أي شيء آخر. والسمة المحددة للتفكير المفرط هي أنه غير منتج. وقضاء ساعات في اجترار قرار ما، وربما تفويت المواعيد، أو فقدان النوم. والإفراط في التفكير يختلف عن الشعور بالتوتر أو القلق بشأن ظرف معين. حيث ان وجود الكثير من الأفكار حول موقف ما يتطلب جهدا على المدى القصير ويمكنه أن يدفع إلى اتخاذ خطوة إلى الأمام. فالتوتر بشأن عرض تقديمي مهم، يمكن ان يساعد على الانطلاق و التبكير في العمل ذلك اليوم للتأكد من إنجازه في الوقت المحدد. لكن الإفراط في التفكير غالبًا ما يمنع من اتخاذ إجراء معين، لأنه يمنع الانتقال من وضع التحليل إلى الإنجاز. ومشكلة الإفراط في التفكير هي أن أذهاننا تأتي دائمًا بسؤال جديد مثير للقلق. على الرغم من أن الأشخاص من جميع الأعمار أو الأجناس أو أنواع الشخصيات قد يعانون من الاجترار، إلا أن الذين يحفزهم الإنجاز قد يكونون أكثر عرضة للإفراط في التفكير. فيميل أصحاب الكمال والمبالغون في التحصيل إلى ذلك، لأن الخوف من الفشل والحاجة إلى التحلي بالكمال، هو الأمر الذي يؤدي إلى تكرار انتقاد القرارات الخاطئة.
والإفراط في التفكير ليس اضطرابًا عقليًا معترفًا به بحد ذاته، ومع ذلك توصلت الأبحاث إلى أنه غالبًا ما يرتبط بحالات الصحة العقلية الأخرى، بما في ذلك: الكآبة، واضطرابات القلق، و اضطراب الوسواس القهري، وكذلك اضطراب ما بعد الصدمة. وقد وجدت إحدى الدراسات علاقة ثنائية الاتجاه بين الإفراط في التفكير وقضايا الصحة العقلية الأخرى، وتسمى تلك الحالة بالدجاجة والبيضة، حيث يمكن أن تساهم المستويات العالية من التوتر والقلق والاكتئاب في الإفراط في التفكير. وفي الوقت نفسه قد يترافق الإفراط في التفكير مع زيادة التوتر والقلق والاكتئاب. فبعد حدث صادم، من الطبيعي أن نكون شديدي اليقظة. وفي حالة تأهب لأي خطر، لذلك نجد البعض قد يعاني من اليقظة المفرطة والتفكير الدائم في المؤشرات المحتملة للمتاعب. بحيث يصبح الدماغ متأهبا وكأنه في وضع جاهزية للقتال ومواصلة البحث عن التهديدات أو حتى التهديدات المتصورة.
رد الاستاذ مشاري. نعم يا دكتور فيصل، أتوقع أن تحليلك للمشكلة متطابق بشكل كبير مع حالة المهندس نواف، وهو بالإضافة لذلك يقضي معظم وقت فراغة في لعب الشطرنج والتي تعتمد كثيرا على التفكير سواء في خطوات اللعبة السابقة أو اللاحقة. ولكن السؤال المهم هو كيف يمكن التوقف عن التفكير المفرط؟
فأجاب الدكتور فيصل ذلك لن يحدث ذلك على الفور، ولكن يمكن كسر دائرة، الإفراط في التفكير.، عبر هذه النصائح الخمس.
أولا: تتبع الأنماط التي تسبب المشكلة عبر الاحتفاظ بدفتر يوميات وكتابة لحظات معينة تسبب الإفراط في التفكير للتعرف عليها قبل حدوثها. ومن ثم تطوير استراتيجية للتكيف مع تلك المواقف.
ثانيا: تحدى الأفكار بمعنى أنه ليس علينا تصديق كل ما نفكر فيه. ومن الطرق الفعالة لمقاومة التفكير المفرط، تحدي المخاوف والأفكار المجترة، والنظر إليها بموضوعية لمعرفة ما إذا كانت الفكرة مفيدة. فإن لم تكن تلك كذلك ، فإن طرحها يمكن أن يسهل من إدارتها.
ثالثا: تشير الكثير من الأبحاث إلى أن التمارين الرياضية تخفف من الاكتئاب والقلق واضطرابات الصحة العقلية الأخرى. وكذلك في التخلص من التفكير الزائد المزمن أيضًا. فالمشي لمدة 5 دقائق، يمكن أن يرسل تدفقًا للمواد الكيميائية والهرمونات الجيدة ، مثل الإندورفين، إلى أدمغتنا. ويساعد أيضًا في إخراج الجهاز العصبي من وضع الجمود، وتهدئة أي اجترار مرتبط بالصدمة.
رابعا: الحصول على مساعدة من الأصدقاء الموثوقين حول مشكلة ما، ممن يعرف بالفعل كيفية إدارة الإفراط في التفكير.
خامسا: طلب المساعدة من محترف، فإذا بدا أن الإفراط في التفكير يأخذ مساحة أكبر، فمن الأفضل استشارة اختصاصي في الصحة النفسية أوالتحدث مع طبيب الرعاية الأولية حول هذا الموضوع. فالإجهاد المرتبط بالتفكير المفرط قد يؤدي إلى أعراض صحية جسدية مثل: الصداع، والإعياء، وكذلك مشاكل في الجهاز الهضمي، مثل الغثيان أو الإسهال، وكذلك صعوبة النوم. فيمكن للمعالج أو المستشار المساعدة على تعلم استراتيجيات التأقلم لإدارة الاجترار. وكذلك في تحديد ومعالجة أي أسباب كامنة للإفراط في التفكير، مثل القلق أو الاكتئاب.
وأردف الدكتور فيصل مخاطباً الأستاذ مشاري: الآن أصبح لديك فكرة شاملة عن مشكلة المهندس نواف. وبصفتي موجها لن أقدم لكن حلولا معلبة، بل أريد أن تعرض لي الحل الذي تقترحه وسوف أتابع معك خطوات تنفيذه، فماذا سوف تفعل مع المهندس نواف؟
فرد الأستاذ مشاري، لدي ثلاثة حلول، أحدها التوقيع على إنهاء عقد المهندس نواف، والثاني، توقيع عقد معه لمدة سنة وأخذ تعهد عليه بالانتظام والالتزام بالعمل. والخيار الثالث وهو تقديم إجازة له لمدة أسبوعين مع تذكرتي سفر لأحد المدن السعودية التي يرغب فيها مع السكن. وبعد عودته من الإجازة، سوف أتابعه بنفسي لمدة شهر، فإن تحسن فهذا هو المطلوب، وإن لم يتحسن فسوف أتفق معه على عقد جلسات مع معالج نفسي ليتخلص بإذن الله من هذه المشكلة.
أجاب الدكتور فيصل: وأي هذه الحلول تميل إليه يا أستاذ مشاري؟. فأشار الأستاذ مشاري بأنه يميل مع الحل الثالث. فرد الدكتور فيصل، نعم، هذا الحل ممتاز، وسوف أتابع معك مراحل تنفيذه.
جامعة القصيم
** **
- أ. د. عبد العزيز سليمان العبودي