يعالج علوان السهيمي في روايته الجديدة موضوعة «الكتابة» و«المفهوم الوظيفي للكاتب»، يتساءل حول حقيقتهما، في الحقيقة الجوهرية الوظيفية، أي ما وجدت من أجله الكتابة خاصة الكتابة التخييلية الإبداعية، وفي المتداول القائم على التهويمات والتعريف المجازي الذي اكتسبته الكتابة والكاتب عبر التاريخ الطويل للتدوين والكتابة، وتأثرهما بالمرحلة التي يمران بها تاريخيا وسياسيا واجتماعيا، وهو ما شكَّلَ التصورات غير الحقيقية التي أصبحتْ بدورها تؤثر في معنى الكتابة ووظيفتها، وحقيقة الكاتب ووظائفه الاجتماعية والمعرفية في الحياة والكتابة.
تتكون الرواية الجديدة لعلوان السهيمي من ثلاثة محكيات مؤطرة للسرد، وهي:
1. رواية ياسر النبهاني والد «حسن» و«قمر».
2. رواية «معن» و«زهراء».
3. رواية «ممدوح سعران» والد «عدنان» و«ميس».
يتبين أن الخطاب الروائي في «حقيقة قوس قزح» خطاب مركَّبٌ من محكيات تامة كبرى، يمكن تسميتها كالآتي:
1. الرواية المصاحبة؛ مصاحبة (تحيط بـ) للكتابة الأصلية، رواية معن وزهراء.
2. الرواية الأصلية، أصلية التي انزوى ياسر النبهاني لكتابتها في شقة خاصة.
3. الرواية اللاحقة، تلحق بالروايتين السالفتين، متعلقة باللقاء الثقافي للكاتب ممدوح سعران.
وقد اختار الكاتب صيغا مميزة لكل محكي سردي على حدة، كالآتي؛
1. خطاب المراسلات القصيرة والمتوسطة غير الإلكترونية بين «معن» و«زهراء».
2. خطاب العرض (لإلقاء)، وهو إلقاء مكتوب (منقول)، وهذا تركيب من نوع/ مستوى آخر.
3. خطاب المحكيات، علاقة الكاتب- الحاضنة، بولديه «عدنان» و«ميس».
كما سلف، هذه الخصائص المميزة، تدل على أن خطاب الرواية خطابٌ مركبٌ، وفي ذلك يختلف عن غيره من الخطابات السردية المجاورة له.
تبدأ الرواية الأولى، وهي الرواية المصاحبة، برسالة مقتضبة ورقية، من أحد الجيران في العمارة حيث توجد الشقة- الهدية مكان خلوة الكاتب ياسر النبهاني تخبره بالتوقف عن التدخين أو التخفيف منه، لأن دخانه يقلق الجار، رسالة خلو من التوقيع، فيها تقريع، لكنه مهذَّب ومبطَّنٌ، ص (6).
حصل على الشقة، هدية من صديقه «أمجد»، ومن المؤكد أنه يثق في قلم صاحبه وسعة خياله وأهمية ما يكتبه وينشره، لقد توقف الكاتب عن نشر رواية جديدة مدة رآها أصدقاؤه وزملاؤه طويلة، مدة سنة ونصف السنة، لذلك جعلوا من سؤالهم «هل لديك رواية جديدة؟» سؤال مقلق ومحرج في آن. إن ذلك السؤل كان دافعا وراء استجابة ياسر النبهاني لطلب - هدية صديقه أمجد، ولكنه في الحين ذاته، كان فعلا لتلبية حاجة في نفس الكاتب، إنه اختار الكتابة، بل الشروط المحيطة التي عاشها كانت السبب في صناعته كاتب رواية، ضد رغبته الأولى، وهي أن يكون لاعب كرة قدم، في وقت لم يكن فيه والده أو إخوته، يرون في هذه الرغبة والموهبة مستقبلا يمكن صاحبهما من فتح بيت وتكوين أسرة محترمة. الكتابة من هذه الناحية ليست اختيارا، إنها موهبة شحذتها شروط فكرية ونفسية وثقافية واجتماعية لتجعل منها أولوية من أولويات الفرد، وبالتالي سيجد فيها المجال والفضاء الواسع للتعبير عن ذاته وتطوير وجوده الاجتماعي وربما الترقية في الوسط الذي يخالطه وينتمي إليه.
أما الرواية الثانية، وهي الرواية الصامتة المتحدَّثِ عنها، فتتداخل بشدة مع الرواية الأولى المصاحبة، وقد عنون الكاتب الرواية الصامتة بعنوان «الحاضنة»، ثم ألحقها بالكتاب، وبذلك يكون كتاب «حقيقة قوس قزح» قد تضمن روايتين مستقلتين على مستوى الخطاب، كما أن رواية «الحاضنة»، الرواية اللاحقة بمحكي الرواية الأولى، تكتسب أهميتها من كونها الحلقة الواصلة بين المحكي الخاصِ بياسر النبهاني الذي سينفرد في شقة للإجابة على سؤال الكتابة ووظيفة الكاتبة وعلاقتهما بالواقع الاجتماعي والثقافي والمهني، وهو أستاذ جامعي يدرس علم الإدارة، قضى فترة بنيوزيلندا لاستكمال دراسته العليا، ولأجل الحصول على شهادة الدكتوراه في مجال اشتغاله المهني ولتطوير لغته الانجليزية، هذه المعطيات مهمة لأنها تتداخل بقوة مع محتوى الروايات الأخرى المجاورة والمصاحبة، وتتداخل أيضا مع محكي ممدوح سعران، الكاتب الحائز على جائزة كبيرة عن أحد أعماله الروائية، والتي ستتحول إلى فيلم سينمائي، وسيقدم نفسه وعمله بالقاهرة، هذا التداخل المقصود من الكاتب الموضوعي، يعد أهم خاصية سردية في الخطاب الروائي في «حقيقة قوس قزح»، فهو من جهة يؤكد أن الخطابَ الروائيَّ خطابٌ مركبٌ، وأن التركيب هو ما يجعله منفتحا على مختلف أشكال الخطاب والكتاب، وأساليب التعبير، ويجعله فضاء شديد الخصوصية، ومن جهة أخرى يجعله خطابا قابلا للتعدد والتنوع في المحكيات السردية وفي الخطابات وفي الشخوص والشخصيات والموضوعات التي يعالجها، وبذلك يجسد مقولة إن «الأدب هو الحياة» التي يمكن تحويلها تحويلا طفيفا لتصبح كالآتي إن «الروا ية هي الحياة». ما يجعل الرواية، وإن كانت عبارة عن تخييل فني وأدبي وتعبير لغوي وبلاغي، ورؤية سردية، صورة ذهنية «فضاء تخييلي» عن الواقع في تعدده وتنوعه واختلافه، تجمع في توافق تام بين المحكي الذاتي- الشخصي (محكي الذات)، ومحكي الحياة، فكتابة الواقع تمر عبر وعي الكاتب، وفهم الواقع يقيم على مستوى التجارب الشخصية، ومن ثمة يكون لسؤال أمجد حمولة معرفية خاصة، تنبه على أن حقيقة الكتابة التي ينكرها كثير من الكتاب والكاتبات أنها في جوهرها ذاتية، وإن تم تنويع طرائق الصياغة والعرض.
هذا هو موضوع رواية «الحاضنة» اللاحقة ، أو محكي ممدوح سعران، التي كتبها ياسر النبهاني، وظلت الرواية صامتة، لا نعلم عنها إلا من خلال إشارات طفيفة ومبهمة، منها ما ذكره ياسر لأمجد في سياق التعريف بروايته الجديدة طور التكون والإنشاء، ص (38)، أو من خلال الفصول التي كان «معن» يبعث بها إلى «زهراء»، والتي قدمت حولها الممرضة والجارة والقارئة الأولى رأيا يمكن اعتباره خطابا نقديا مجاورا كذلك ومصاحبا يضيء، بل يثير رغبة القارئ في معرفة محتوى الرواية الصامتة، تقول: «في المجمل ما قرأته كان جميلا. جميل لأنه صور لي حياة الكُتَّابِ، وأجاب عن أسئلة فضولية دائما ما كنتُ أطرحها بيني وبين نفسي عن يوميات الكُتَّابِ، وكيف يقضون حياتهم بعيدا عن الكتابة». ص (69)، ومن خلال ما دونه الكاتب نفسه، في حكي عن نفسه، داخل الخطاب الروائي، عن صعوبة كتابة «خاتمة» خطاب الرواية ونهايتها أو حلها المناسب، في الصفحة (115).
إنها الرواية الصامتة، التي كتبها ياسر النبهاني (الكاتب الموضوعي)، وسرد محتواها في القاهرة ممدوح سعران (الكاتب البديل)، وقدمها إلى زهراء النسخة الافتراضية (مِعن). هكذا يجتمع التداخل مع التنوع والتعدد في بؤرة واحدة؛ ثلاث شخصيات متخيلة، وهي صور مستنسخة عن بعضها ياسر النبهاني كاتب رواية «الحاضنة»، ومعن، النسخة التي كان يتخفى وراءها ياسر النبهاني، أمام زهراء، بإصرار واعتبارا للشروط الخارجية التي تستحضرها الذات الكاتبة وتقحمها دون إرادة في المتن السردي التخييلي، مثل القوانين العامة والعادات والتقاليد المحلية واللهجات العامية، والعلاقات الاجتماعية...
هذه الكذبة التي تدل على الحذر والحيطة، سبقتها كذبة أخرى، عندما قدم نفسه أعزب للجارة القارئة زهراء، وقبلها كذبة أخرى عن زوجته، خوفا من ظنها الظنون عندما تعرف أنه يقيم في شقة للكتابة. هذا النوع من الكذب في التخييل الروائي، لا علاقة له بالكذب الأخلاقي، ولكنه ذريعة سردية تسمح بالانتقال من متوالية سردية إلى أخرى مختلفة عن سابقتها، وكما يسمح بالقفز عن معطيات واقعية واجتماعية أو فكرية سائدة، والأهم أن هذه الكذبة كانت الحجر الأساس في بناء شخصية بديل هي شخصية معن، وهكذا نشأ محكي سردي جديد هو محكي «معن وزهراء»، بعد محكي «ياسر النبهاني وأسرته الصغيرة وصديقه أمجد»، الذي سينشأ عنه محكي آخر تام، لكنه مبتور، وهو محكي خاص بـ»الرجل ذي المتجهم، وإمام المسجد، ثم المؤذن»، وهو محكي جانبي لكنه مهم، لأنه يوسع السرد ويفتح بابا على الواقع، والتدخل السافر لفئة من الناس في شؤون غيرهم، مستغلين العرف والعادة السائدين، خاصة في المملكة العربية السعودية، ممن يعرفون بجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقومون بوظيفة «تطوعية» للحفاظ على نمط الحياة السائد.
إن رواية علوان السهيمي الجديدة «حقيقة قوس قزح»، اتخذت من الكتابة وأسئلتها موضوعا لها، كما أنها اقتربت من حياة الكُتَّاب الذين تسلبهم الكتابة وشروطها، كالحضور الفعلي والدائم في الساحة، خوفا من التجاهل والنسيان، والإهمال، وهذه أعراف وأوهامٌ تسكن نفوسا كثيرة، تلهيهم عن الحياة وحيويتها عامة، والحياة الأسرية الخاصة ومنها الاهتمام بالبيت وشؤونه الصغيرة اليومية والأبناء وحاجاتهم في التكوين السليم والمعرفة والتوجيه، فغالبا ما يعتقد الكتاب أنهم من طينة مختلفة، كأنهم أنصاف آلهة، يتعالون على الحياة وحاجاتها الضرورية، اليومية، وهو وهم كبير.
إنها رواية تطرح موضوعا همها جدا، الكتابة والحياة، اليومية في خصوصياتها، كما أنها تضمنت كثيرا من الخطابات والأساليب المتخللة، وأهمها:
1. السرد والوصف.
2. الحوار/ الحجاج.
3. الرسائل.
4. العرض/ الإلقاء (المدون).
5. التنظير الواصف (وجهات النظر النقدية)...
المصدر:
السهيمي، علوان، حقيقة قوس قزح، رواية، منشورات دار ميلاد، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط.1، 2021م
** **
- محمد معتصم