فقدَت العربيةُ علمًا كريمًا من أعلامها، وخسِرَت الجِراحةُ طبيبًا لامعًا من شيوخها، وحُرمت العلومُ فارسًا مجلِّيًا من فرسانها، برحيل الأستاذ الكبير الدكتور محمد مروان المحاسني، رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، وأحد أئمَّة تعريب العلوم الطبِّية في عصرنا، الذي جمع إلى تخصُّصه العالي والدقيق في الجراحة الطبِّية الاهتمامَ بالعربية، والشَّغَف بعلومها، والتضلُّع من آدابها. مع عناية خاصَّة بالتعريبِ ووضعِ المصطلحات في مجالات الطبِّ والعلوم الطبيعية والحيَوانية، والبيئة والزراعة والجيولوجيا، وعلوم الأحياء النباتية، والعلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية، وألفاظ الحضارة مستفيدًا من إتقانه عددًا من اللغات العالمية، وإلمامه بغيرها؛ كالإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، فضلًا عن العربية.
وكان المحاسني رجلًا أنيقًا وراقيًا في كلِّ شيء؛ في علمه وعمله، وفي إدارته وتوجيهه، وفي خُلقه وشمائله، وفي لطفه وتواضعه.
وهو إلى ذلك متحدِّثٌ بارع، ومحاضر حاذق، وصاحبُ بديهة حاضرة، ونكتة لطيفة آسِرة، وبقي ممتَّعًا بهمَّة عالية، في عمل متقَن دائب، حتى رحيله وقد ناهزَ المئة!
سيرة المحاسني
وُلدَ محمد مروان المحاسني في دمشق سنة 1344هـ/ 1926م، في أسرة كريمة من ذُرِّية الصَّحابي تميم الدَّاري رضي الله عنه، جاء جدُّهم الأعلى إلى دمشق من بيت المقدِس، واشتَهَر من أولاده مَحاسِن الشرابيشي التميمي الحنفي في القرن السادس الهجري، فنُسِبَت إليه الأسرة وعُرفت باسم بني مَحاسِن (أو المحاسني). وقد تولَّى أبوه وأجدادُه مناصبَ رفيعة في القضاء والإفتاء.
وامتدَحَ هذه الأسرةَ العلامةُ محمد بن عبد الرحمن الغَزِّي مفتي الشافعية بدمشق قائلًا:
إذا افتخرَ الأنامُ بأرض شامٍ
وعَدُّوا دُورَها ثمَّ المساكِنْ
أقولُ مُفاخرًا قولًا بديعًا
محاسِنُ شامِنا بيتُ المحاسِنْ
دراسته وتحصيله:
تلقَّى المحاسني علومَه الابتدائية والثانوية في مدرسة (الفرير ماريست/ الإخْوة المَريميِّين) بدمشق؛ وحصلَ على الشهادة الثانوية سنة 1943م ثم انتسبَ إلى المعهد الطبِّي العربي (كلِّية الطبِّ بجامعة دمشق الآن)، وحصلَ على الدكتوراه منه سنة 1951م. فأُوفدَ إلى جامعة باريس ونال منها شهادةَ اختصاص في الجراحة سنة 1955م.
عاد إلى دمشقَ ليدرِّسَ الجِراحةَ في كلِّية الطبِّ، ولشغفه بالآداب انتسبَ إلى قسم اللغة الفرنسية من كلِّية الآداب بجامعة دمشق، وحصلَ على إجازتها سنة 1958م. ثم أُوفدَ إلى بريطانيا للتخصُّص في جراحة القلب والأوعية، وإلى جامعة باريس مرَّة أُخرى للحصول على شهادة الأستاذية في العلوم الطبِّية، فحصلَ عليها سنة 1962م.
وظائفه وتدريسه:
عاد إلى دمشقَ محاضرًا ومدرِّسًا في جامعتها، وأخذ يتدرَّج في مناصب الهيئة التدريسية في كلِّية الطب، فصار أستاذًا في الجراحة سنة 1969م، ورئيسًا لقسم الجراحة من 1974 إلى 1977م.
وفي عام 1979م استقالَ، وسافر إلى المملكة العربية السعودية ليعمل أستاذًا للجراحة في جامعة الملك عبد العزيز بجُدَّة، ثم عُيِّنَ رئيسًا لقسم الجراحة في الجامعة من 1984 إلى 1991م، فمديرًا للتعليم الطبِّي في مستشفى الملك عبد العزيز من 1991 إلى 2001م.
وهو عضوٌ في عدد كبير من الهيئات والجمعيات العلمية والطبية والاجتماعية؛ منها: جمعية الأمراض التنفسية بباريس 1955م، وجمعية جراحة الصدر بإنكلترا 1960م، والمجلس الأعلى للعلوم بدمشق 1970م، والمجلس الصحِّي الأعلى بدمشق 1974م، وأكاديمية العلوم بنيويورك 1974م، وعضو مؤسِّس للمجلس العربي للاختصاصات الطبِّية (البورد العربي) 1975م.
في مجمع الخالدين:
انتُخبَ الدكتور المحاسني عضوًا عاملًا في مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1979م خلَفًا للدكتور أسعد الحكيم، وقد تأخَّر حفلُ استقباله عشرَ سنوات 1989م؛ بسبب عمله في السعودية.
ثم انتُخبَ نائبًا لرئيس المجمع سنة 2005م، وظلَّ يشغل هذا المنصبَ حتى انتُخبَ رئيسًا للمجمع سنة 2008م، وبقي رئيسًا له حتى وفاته.
وانتُخبَ المحاسني أيضًا ممثِّلًا للمجمع في اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية سنة 2004م، خلَفًا للدكتور محمد إحسان النص، ثم عضوًا عاملًا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 2009م.
ورأَسَ عددًا مهمًّا من لجان المجمع؛ منها: (لجنة مصطلحات ألفاظ الحضارة)، و(لجنة مصطلحات البيئة والمجتمع والمياه)، و(لجنة مصطلحات إدارة الجودة وعلم القياس)، و(لجنة مصطلحات العلوم الطبيعية والزراعية)، و(لجنة مصطلحات طبِّ الأسنان)، و(لجنة مصطلحات علوم الأحياء الحيَوانية)، و(لجنة مصطلحات علوم الأحياء النباتية)، و(لجنة مصطلحات العلوم الجيولوجية)، و(لجنة تنسيق المصطلحات وتوحيدها).
وشارك في عدد كبير من مؤتمرات المجمع، وألقى فيها محاضرات؛ منها: (مع قضايا اللغة والمجتمع)، و(اللغة العربية ومواكبة علوم العصر)، وله عشَراتُ الكلمات والخطابات التي ألقاها في محافل الاستقبال والتأبين، إضافةً إلى بعض البحوث والمقالات، نُشرَت في (مجلَّة المجمع) بدءًا من سنة 1990م.
مؤلفاته وآثاره:
1- (بيولوجية الحيَوان) ترجمة بالاشتراك، المجلس الأعلى للعلوم بالقاهرة، 1960م.
2- (المعجم الطبِّي الموحَّد) ثلاثي اللغات، بالمشاركة، ط1/ مطبعة المجمع العلمي العراقي ببغداد 1973م، القاهرة 1977م، ط2/ جامعة المَوصِل بالعراق، 1978م، ط3/ ميدليفانت بسويسرا، 1983م، ط4/ منظمة الصحَّة العالمية ومكتبة لبنان ناشرون ببيروت، 2009م.
3- (الكلمات الإيطالية في لغتنا العامِّية، دراسة تاريخية لغوية) دار العربيَّة ببيروت.
4- (كلمات في التراث واللغة والعلوم) مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 2011م.
5- (معجم ألفاظ الحضارة) الجزء الأول (المهن والحِرَف والمنزل والملابس)، ثلاثي اللغات، بالمشاركة، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 2014م.
6- (معجم العبارات الاصطلاحية في اللغة العربية المعاصرة) ثلاثي اللغات، بالمشاركة، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 2021م.
7- (العدوان الثقافي والعولمة) في قيد الطباعة.
وله بحوثٌ علمية كثيرة منشورة في مجلات طبِّية عربية وأجنبية.
وفاته وتشييعه:
توفِّي بدمشق صباح يوم الأحد 17 شعبان 1443هـ يوافقه (20/ 3/ 2022م)، عن تسع وتسعين سنةً هجرية، وشُيِّع جُثمانه في اليوم التالي الاثنين من مشفى الشامي، وصُلِّيَ عليه في جامع سعد بن معاذ، ودُفن في مقبرة الباب الصغير (ماوَرْدي).
تغمَّده الباري برحَماته، وجزاه عن العلوم والعربية والتعريب خيرَ الجزاء، وأخلفَ على الأمَّة من أمثاله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
** **
- أيمن بن أحمد ذو الغنى
الرياض @aymz74