د.فوزية أبو خالد
العزيز الشاعر علي الدميني
الغالية فوزية العيوني
هذه رسالة أخرى ولن تكون الأخيرة من فيض رسائلنا المشتركة التي بدأنا تبادل رغواتها الأولى مشحونة بغرور الشباب وطيش الشعر قبل أربعة عقود.
ما زلتُ أذكر الرسالة الأولى مطلع الثمانينات وكنتما في الأيام الأولى من نشوة شهر العسل وكنتُ لا أزال مضرجة بجريرة سؤال ديواني الأول إلى متى يختطفونكِ ليلة العرس..
ولعل رسالتي اليوم لن تكون إلا استرجاعاً لجذوة رسائلنا المشتركة عبر أكثر من عقد في أحلك وأحلى المواقف والظروف تلك التي وقفتما بها معاً وبكل ما في الأبجدية من قوة وجمال عن يميني وعن يساري كما تقفان اليوم أمامي نقيضاً حياً لمستحيل الخل الوفي ورمزاً نزيهاً نادراً في الصراع السرمدي بين طوفان الألم وقطرة الأمل. وإذا كانت رسائلك لي أيها العلي يوم كنتُ أعيش مصيراً قلقاً في مواجهة السرطان في نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة قد شكلت زعفراناً وأكسيراً ورقية شفاء استعنتُ بها على الجرعات الكيمياوية الموجعة وعلى حرائق الإشعاع بما مدت لي من حبال النجات، فإنني بهذه الرسالة المندلعة من قاع روحي لأبعد سماء لا أكتب إلا كلمة واحدة لك ولشريكة حياتك من كتاب الوفاء العظيم الذي كتبته أنت ولا تزال ماضيا في كتابته شعراً ونثراً لعيون أغلى بلاد ولعيون أجيالها جيلا تلو جيل..
بما لن يكف عن أن يكون مرجعاً وملاذاً لدفع ضراوة المرض ووحشة المجهول وغياهب الظلم وجروح التجارب عن الأرواح الحرة.
كانت الرسالة الأولى بيننا قبل لقائنا الأول ببيت الفنانة التشكيلية منيرة الموصلي بقليل وقد جاءتني بيدها فلم يكن ثمة بريد إلكتروني بعد، ولم يكن البريد العادي وارداً في لحظة لم تكن لنا فيها عناوين محددة باستثناء خطوط سياسية متقاربة في المخيلة أكثر منها في الواقع، فقد كنتُ لا أزال أقدم رجلاً وأؤخر أخرى على طريق العودة من أمريكا، وكنتما في مطلع غبطة العرس وغبشة فجر الدروب الذاهبة للوطن من الباحة وعيون القصيم إلى عيون الحسا وآبار أرامكو وحي الدوحة بالظهران الذي كان مشروعاً على الورق قبل أن يصبح في ظرف عشر سنوات لاحقة أحد معالم الضيافة ممثلاً ببيتكما منصى الأقرباء.. من الوالد غرم الله الغامدي والوالدة أم عبدالعزيز العيوني رحمهما الله إلى الأصدقاء عبدالعزيز المشري أحمد المشري سعد الدوسري شاكر الشيخ محمد علوان ..أحمد الملا ..فهد اليحيا.. منيرة العماري.. نجات بوحليقة.. عيشة الشيخ.. و.. وأنا.
ومع ذلك فتلك الرسالة الأولى إن تذكران لم تكن رسالة تعارف بالمعنى المعتاد، بل كانت حديث الأرواح المتعالقة منذ الأزل، ومع أنها حملت توقيعكما معاً (علي وفوزية) فلم تكن تتحدث عن أي منكما بقدر ما كانت مفعمة بالحديث عن الحركة الشعرية والثقافية المعاصرة المتفتحة بالمنطقة الشرقية متمثلةً بملحق المربد الذي كان رمزاً لمجلة ثقافية تواقة تصدر عن مطبوعة اليوم وهي الجريدة الرسمية الصادرة عن المنطقة الشرقية.
* * * *
ومع توطد العلاقة بيننا فإن تلك الرسائل الورقية بين ثلاثتنا لم تتوقف، ومع أن أغلبية تلك الرسائل كانت بين علي وبيني إلا أنها صارت بيني وبين فوزية فقط في العامين التي قضيتهما أيها العلي في مشوار نضالك بعيداً عن زوجتك وعن طفلك الوليد عادل وعن شقيقك الشاعر محمد الدميني وعن بقية أفراد الأسرة ومحبيك الكثر..
ولعلك يا الفوز تتذكرين حين كتبتُ لك متساءلة: هل ُبعد ابن الدميني عنك وحنينك لأيامكما معاً هما ما يمداك بالقدرة على كتابة هذه الرسائل الرومانسية المقطرة من دمع تجربة الأمومة الأولى ومن أشواقكما المشتركة أنت وبيبي عادل لوالده أو أن هذه الرومانسية هي أحد أسرار انجذاب علي الشاعر والعاشق إليك؟!
ومع انشغالك أيها العلي وتوأم الروح، بعد خروجك من المكمن في ترتيب حياتك وأسرتك الصغيرة وقد رزقما الله خالداً أخاً لنجلاء وعادل، إلا أنك لم تقطعني قط من رسائلك المفعمة بحب الأرض المشتقة من حرير الشعر المكتوبة بكل ما في الحبر من حنان للدرجة التي صرتُ أبصربها في ملامح محيّاك وليس في كلماتك وحسب شبهاً كبيراً بوسامة أبي وبحنان أشقائي الستة.
لا زلتُ أذكر أو بالأحرى لن أنسى ما حييتُ تلك الأكف الحانية والأذرع المفتوحة التي شكلتها رسائلك لي في جميع المواقف العصيبة التي مررتُ بها منذ لحظة إبعادي عن عملي إلى لحظة اضطراري لبدء حياة جديدة بعد حرب الخليج الثانية مبنية على أكتافي وحدي بروحين طرية تحت أجنحتي أمام «رياح مواقع» عاتية لولا وقفاتك بكلماتك الشاهقة إلى جانبي جبلاً أشم.
ولعل التداخل بين الموضوعي لحياتنا الاجتماعية وجوانبها الشخصية كذوات انتدبت نفسها ولم يكلفها أحد لتعيش قلق أسئلة عصرها ووطنها لم تكن المادة المشتعلة والرطيبة الوحيدة لتلك الرسائل المكتوبة أو المهجوسة بيننا. وإذا كنت أيها العلي مثقفاً رسولياً بطبعك فقد كنتُ بطبيعتي كائناً رسائلياً فالطالما تبادلتُ الرسائل والبطاقات مع طيف عريض من الصديقات والأصدقاء من زميلات الدراسة ليلى حسون مريم البلوشي سو تومسون، شيرلي نيومن إلى أخواتي نها ونوار وحسناء، ومن قاسم حداد إلى عبدالعزيز المشري وحسن السبع وغازي القصيبي رغم شكواهم من وخز دبابيس شعري التي كنتُ أشبك بها أوراق رسائلي المطولة لهم.
ولعل دخول تقنية الفاكس على الخط وتحولها إلى وسيلة فورية لتبادل الرسائل وتبادل ما نكتب شعرًا ونثرًا قد سرع إيقاع الرسائل المتبادلة بيننا وكثره وعمق لحمة الحبر فيما بيننا. وقد جاء ذلك في ذروة الحاجة إليه حين شرعتَ بحسك الإبداعي الذي لا يكف عن محالفة الأمل بمبادرة منك وبمؤازرة لفيف من الأصدقاء والمثقفين في إطلاق مشروعك الثقافي الأول من نوعه في تاريخ حركتنا الثقافية على الساحة السعودية ممثلاً في إصدار مجلة ثقافية مستقلة وهي مجلة «النص الجديد». ولم تكن مجلة النص الجديد استشفاء لجميع المثقفين السعوديين المستنيرين المستقلين من المحو والنفي والغياب الذي تعرض له وجودهم وإنتاجهم الثقافي الصحفي من أواخر الثمانينات لتلك اللحظة 1993-94 وحسب، بل كانت تحديك المشترك أنت والفوز شخصياً، ولا أدري كيف دخلتُ أنا على الخط معكما في تماس مباشر في عمليات إعداد المجلة وتحريرها، بل والمشاركة في كتابة أحد افتتاحياتها.. من لحظة صيغة لائحتها الأولى لخروج مجموعة من أعدادها، مع ذلك اللفيف من الأسماء المضيئة سعد البازعي، سعيد السريحي صالح الصالح، صالح الأشقر، عبدالله الخشرمي، أحمد البوقري، غسان الخنيزي، حسن السبع، عبدالله الغذامي محمد علي علوان، سعاد المانع، فوزية البكر والقائمة تطول لولا ازدحام الذاكرة.
كان إصدار مجلة النص الجديد نقلة نوعية في إعادة الاعتبار للثقافة المعاصرة الجادة بالمجتمع السعودي وفي نقل العمل الثقافي من المخيال الفردي إلى عمل ميداني متعدد الأطياف، وعلى أن إصدار مجلة النص الجديد لم يستمر إلا سنوات قليلة انتهت بغيابك الثاني في مكمن آخر، فإن ذلك لم يطفئ أوار راسائلنا المتبادلة المكتوبة أو المضمرة. لم تكف الكتابة عن أن تكون «رسولا بيننا» يقاوم كل أشكال المواجهات الشرسة والشفيفة.. وكما أحتفظ بمجلدات من رسائل الفاكس المتبادلة بيني وبين غسان وطفول خلال مراحل مبرحة من عملي على أطروحة الدكتوراه بين الرياض ومانشستر فلا زلتُ أحتفظ برسالتي للطفلة الجميلة ابنتكما الغالية سوسن من ذلك الشمال الغربي البريطاني يوم أطلت البنت الصغيرة بضفيرتها المتموجة على غربتي من خزانة المطبخ بالسكن الجامعي وأخذت صورتها تارة تحتضنني وتارة تنكل بروحي في صقيع الغربية بشقاواتها دون أن ترشي مشاغباتها الطفولية كل شوكلاتات الكادبوري والفليكس والكتيكات التي بسطتها أمامها.
أقلب الآن تلك الرسائل التي كتبتها لي أيها العلي أو التي كتبتها لي أيتها الفوز، ليس من «صندوق أم إسراء» الذي أحتفظ فيه عادة بأغلى مشغولات الحبر التي أملك، (وذلك الصندوق قصة صداقة خالدة أخرى)، بل أقلب رسائلنا حارة دفاقة وكأنها كتبت للتو من مخزونها الزاخر في دمي وداخل تجاويف الذاكرة.. وأتذكر قراءتنا الاحتفائية فوزية وأنا وصغارنا تلك التي كنا نقيمها كل مساء ببيتكم صيفاً لرسائل كُتّاب المهجر جبران خليل جبران وماري هكسل وميخائيل نعيمة، ورسائل الرافعي والعقاد ومي زيادة، ورسائل غسان كنفاني لغادة السمان ورسائل كافكا إلى ميلينا ورسائل جرامشي لأمه ورسائل، ورسائل والرسائل المتبادلة بين محمود درويش وسميح القاسم بمجلة اليوم السابع.. دون أن يكون لتلك الاحتفائية المسائية بأدب الرسائل سبباً على وجه التحديد إلا ربما إصدار غادة لكتابها الرسائل وقتها.
* * * *
أيتها الفوز
ازرعي المزيد من الفل وملكة الليل والياسمين على الشرفات والطرقات، فتلك النبتة التي زرعتها قبل أشهر في حوض النخلة ببيتي تفتحت وتمادت في مد أغصانها وكأن الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود أن لا نهاية لمدات الأمل خصوصاً تلك التي نسقيها رحيق الصبر وسلسبيل الحب ولهفة بلا منتهى.
أيها العلي
أكتب لك ولا أكتب عنك فليس من يستطيع الكتابة عن عرّاف الكتابة ورسولها.
أكتب لك ولا أكتب عنك فمن يستطيع الكتابة عن سر الكتابة نفسها.
أكتب لك ولا أكتب عنك فمن ليكتب عن كيمياء الشعر وسحره الحر؟
الصديق الشاعر علي الدميني
أكتب لك علي ولا أكتب عنك فلا تزال كلمات الحرية والخلود والحياة على موعد متجدد معك.