من الظواهر اللافتة للنظر مؤخراً ظاهرة تكريم الأدباء والنقاد والمفكرين؛ إذ عُنِيَ بهذا التكريم مؤسسات وأفراد، ولعل آخرها مجلس أوراف الأدبي الذي ابتدأ نشاطه الأدبي -بعد تصريح المجلس رسميًا- بتكريم رموز الأدب والنقد والإبداع في المملكة العربية السعودية.
وثمة صحف أخذت على عاتقها تكريم بعض الرموز من حين إلى آخر، ومن بينها ثقافية الجزيرة التي انتظمت في التكريم، وسنّت فيه سُننًا حسنة، وكرمت أعدادًا كبيرة من الرموز الوطنية والأدبية والثقافية، ولا أعرف صحيفة نافست ثقافية الجزيرة في عدد المكرمين، ونوعيتهم، وحسن التغطية.
لقد دأبت ثقافية الجزيرة على تكريم كثير من الشخصيات التي تحفل بها الساحة الأدبية والثقافية في المملكة، وتنوعت أطياف هذه الشخصيات المكرمة، وتعددت مشاربهم وثقافاتهم ونتاجاتهم، منهم الفتي ومنهم الكهل، ومنهم من فارقنا -رحمه الله.
ولعل هذا التنوع يعكس اهتمام الصحيفة بجانب تكريم الرواد من الشعراء والأدباء والمثقفين، والصحيفة ممثلة بالقائمين عليها تعلم أن للتكريم أثره الذي لا يمحى على المكرمين والمتلقين لنتاج هؤلاء المكرمين على حد سواء.
ويختلف التكريم في الصحيفة على حسب فئات المكرمين، فمنهم من جاء تكريمه على هيئة كتاب مستقل يصدر عن مؤسسة الجزيرة، وهذه الفئة لها ثقلها، ولها نتاجها الضخم، ومن هؤلاء المحتفى بهم من لا نزال نحفل بنتاجهم كالأمير خالد الفيصل الذي جاء تكريمه في كتاب بعنوان «خالد الفيصل.. الأمير المسؤول المثقف»، وقد حوى الكتاب جملة من الدراسات والكتابات حول إبداعات الأمير خالد الفيصل ونتاجه المتنوع.
ومنهم من فارقنا مثل الوزير الدكتور غازي القصيبي، الذي أصدرت عنه الجزيرة كتابا بعنوان «الاستثناء: غازي القصيبي.. شهادات ودراسات»، وقد استعرض هذا الكتاب مسيرة الدكتور القصيبي وعطاءه المتنوع في الشعر والروايات والمقالات، وقدم قراءات ودراسات لأكثر من سبعين أكاديميا وباحثًا وكاتبًا وصحافيا من السعوديين والعرب والأجانب.
وقد يكون الاحتفاء في الصحيفة ذاتها من خلال الصفحات الثقافية ضمن الصحيفة، وقد حفلت أيضًا بعدد من المكرمين المتميزين الذين كانت وما زالت إبداعاتهم تتوالى في الساحة الأدبية والنقدية.
ومن أبرز هؤلاء المكرمين محمد رضا نصر الله، وهو إعلامي وكاتب سعودي، ولد عام 1953م، وأعدّ وقدّم عددًا من البرامج التلفزيونية، وكان عضوًا في مجلس الشورى.(1)
ومن الأدباء والمثقفين الذين حظوا بالتكريم الدكتور عبدالمحسن القحطاني الذي كان له نشاط أكاديمي وثقافي، فقد كان أستاذًا في جامعة الملك عبد العزيز بكلية اللغة العربية، وأحد أعضاء نادي جدة السابقين.(2)
وقد حظي رواد النتاج الأدبي بالتكريم كذلك، كالشاعر والمفكر الدكتور محمد العلي، الذي يعد رائدًا من رواد شعراء الحداثة في المملكة العربية السعودية، وقد ولد عام 1932م.(3)
وكما نال الشعراء نصيبهم من التكريم لم تغفل الصحيفة عن تكريم رواد الكتابة السردية من القصاص والروائيين نصيبهم كذلك، ومن أبرزهم عبد الله بن محمد الناصر، وهو كاتب وقاص سعودي من مواليد الدرعية 1951م، له كتابات صحفية، وقد تولى عددًا من المناصب من أبرزها تعيينه عضواً في مجلس الشورى، من مجموعاته القصصية: (حصار الثلج) و(أحاديث القرى).(4)
ومن أبرز الكتاب كذلك إبراهيم شحبي، وهو روائي وكاتب سعودي، من مواليد رجال ألمع في منطقة عسير عام 1376هـ، بدأ تجربته بكتابة الشعر ثم اتجه للسرد، تنوع نتاجه بين الشعر والرواية والقصة القصيرة والمقالات الأدبية والفكرية.(5)
وعودًا على بدء.. نوعت صحيفة الجزيرة في شخصياتها المنتقاة للتكريم، والجامع بينهم أن لكل من هؤلاء الرواد حجمه وبصمته التي تألقت وزاد لمعانها بهذا الاحتفاء من الصحيفة.
فئات المستكتبين:
تدرك صحيفة الجزيرة أن خير من يعبر عن الأدباء والمثقفين المكرمين هم طائفة الأدباء والكتاب أنفسهم، لذا استكتبت الصحيفة في كل تكريم تناط به مجموعة من الكتاب الذين اقتربوا من المكرمين على الساحة الأدبية أو الثقافية، أو ممن يقتربون من محيطهم الاجتماعي سعيًا إلى تحقيق أعلى مستوى من الشفافية.
ومن أبرز هؤلاء الأدباء الذين لهم حضور ومتابعة للمشهد الأدبي والثقافي الكاتب والأديب حمد القاضي، الذي اتسمت كتابته بالموضوعية والوضوح، وتظهر دماثة أخلاقه مصاحبة لكلماته، وتجده مشاركًا في جل تكريمات الصحيفة، وذلك لسعة اطلاعه، ومتابعته للمشهد الثقافي.(6)
ومن الكتاب أيضًا د. عالي القرشي الذي قدم كثيرًا من المقالات التي أسهمت في إضاءة المشهد الثقافي إلى جانب تحفيز الشخصية المكرمة، وهو يتوسل إلى ذلك بالحرف الصادق، والرؤية النقدية الجادة.
ومن الشعراء الذين استكتبوا الشاعر المبدع جاسم الصحيح، وقد جاءت بعض كتاباته للمكرم شعرًا، وأزعم أن نوعية الشخصية المكرمة دعته إلى أن يكون شاعرًا في تلك اللحظة، كالذي كتبه في تكريم الشاعر محمد العلي، فجاء التكريم من شاعر إلى شاعر.(7)
وفي أحيان أخرى تأتي مشاركته جامعة بين الشعر والنثر، كالمقال الذي سطره عن الإعلامي محمد رضا نصر الله، إذ بدأ مقاله ببيتين شعريين، وتابع نثرًا، ثم ختم كما بدأ بتسعة أبيات وثقت للأخوة بينه وبين الشخصية المكرمة.(8)
ومن الشعراء أيضًا الشاعر أحمد الصالح، الذي سطر مقالاً موجزًا يتحدث فيه عن الأديب عبدالله الناصر، جاعلاً إياه فارسًا منافحًا عن اللغة والتراث والأدب.(9)
مواد التكريم:
تنوعت أشكال التكريم في الصحف السعودية، وقد سعت صحيفة الجزيرة إلى هذا التنويع سعيًا إلى تحقيق مستوى عالٍ من القراءة النقدية الموضوعية، وقد كانت المقالات الجادة ذات النقد العميق مادة مهمة من مواد التكريم، خاصة أن ذلك النقد صادر عن نقاد متخصصين، مثل ما كتبه الدكتور عبدالله المعطاني حول جماليات الحدث القصصي عند الكاتب عبدالله الناصر.(10)
وتأتي الشهادات مادة من مواد التكريم التي تعتمد عليها الصحف في التكريم، ويتصدر هذه الشهادات ما تنشره صحيفة الجزيرة على لسان المقربين من الشخصية المكرمة، سواء أكانوا من الأصدقاء أو زملاء العمل أو أفراد الأسرة، من ذلك ما جاء في تكريم الشاعر والمفكر السعودي محمد العلي، إذ انبرى أبناؤه للحديث بفخر عن والدهم، وكانت شهاداتهم تعكس شخصية محمد العلي الأب، وتقدمه مثالاً نابضًا بالإنسانية، قادرًا على الاحتواء، مضحيًا في سبيل الأسرة.(11)
وعلى صعيد الصداقة تأتي مقالة عبدالله نور -رحمه الله- في صديقه محمد رضا نصر الله خير دليل على مثل هذه الشهادات، وقدم المقال ذكريات الكاتب مع صديقه محمد رضا نصر الله، مزاوجًا بين عبق الماضي ونشوة الحاضر.(12)
ويأتي الشعر مادة مهمة من مواد التكريم وإن كان أقل حضورًا من المواد السابقة، وقد حرصت الجزيرة على التنويع بين الأشكال الشعرية، كالقصيدة العمودية التي سطرها الشاعر سعود البلوي وأهداها للأديب الدكتور عبدالمحسن القحطاني.(13)
تحقيق الغايات:
تحاول صحيفة الجزيرة من خلال تكريمها للشخصيات الفكرية والأدبية تحقيق جملة من الأهداف التي يأتي في مقدمتها إشعار الشخصية المكرمة بمكانتها على الساحة الأدبية والثقافية، والتأكيد على فعالية هذه الشخصية، وأنها جزء لا يتجزأ من تطور الأدب والثقافة في المملكة العربية السعودية.
ولأن مواد التكريم تعتمد في كثير منها على المقالات الجادة والنقد العميق فإن هذه المواد أسهمت في دفع عجلة النقد، وتطوير الحراك الأدبي؛ إذ إن هذا التكريم يشكل واحدًا من عناصر التحفيز للكتاب والأدباء، ويشعرهم بحضورهم، وتأثيرهم، ويحفزهم لتقديم الأفضل.
ويأتي إذكاء جذوة التنافس بين الأدباء هدفًا لا يستهان به من أهداف التكريم لدى صحيفة الجزيرة شريطة أن يكون اختيار الشخصية قائمًا على مدى تأثير هذه الشخصية في الساحة الأدبية والثقافية.
أعتاب العقبات:
لا شك أن تكريم صناع الكلمة يعبر عن الوفاء والامتنان لهم، خاصة حينما تكون الشخصية المكرمة على قيد الحياة، فهذا سيقدم حافزًا آخر لها لتواصل سعيها في تجويد تجربتها الإبداعية، وإتحاف الساحة بما يرتقي بمستوى المتلقين.
ولكن التكريم قد يفقد شيئًا من بريقه وشفافيته حين يدخل في حيز المجاملات، ويتأثر بالمحسوبيات، خاصة أن بعض الصحف قد تضطر لمجاملة شخصية ما مع وجود شخصيات أخرى أولى بالتكريم، وأجدر بالإشهار.
ومن الأمور الأخرى التي لابد من العمل على تصحيحها تكريم من يستحق التكريم بعد موته، وهذا لا شك فيه من الوفاء الشيء الكثير، لكن تأخيره إلى ما بعد موت الأديب لا يحقق الثمرة المرجوة كما لو كان حيًّا.
وهذا لا يعني أن تغفل الصحف عمن فارقنا من الأدباء الكبار، فقد كانوا وما زالوا قدوة لهذا الجيل، وفنار إبداع لا يخبو، ولكن التركيز على من كان له حضور مؤثر في حياته أجدى من تكريمه بعد موته.
ضفاف التطلعات:
إن الحراك النقدي يعتمد على عناصر عدة يشترك فيها منتج النص والمتلقي، وتأتي الصحف بكتابها واحدة من أبرز المتلقين للنتاج الأدبي والفكري والثقافي السعودي، وتتصدر الجزيرة هذه الصحف باعتنائها كثيرًا بمتابعة المشهد الثقافي، ومعايشة أعلامه وتفاصيله.
ومتابعة الصحيفة لهذا العمل المشكور في تكريمها لرواد الأدب والثقافة في المملكة أمر مهم، ولعلها تخص الأحياء من هذه الشخصيات بالتكريم، مع تسليط الضوء أكثر عليهم حال وجودهم بيننا، لما في ذلك من تحفيز لهم.
ومما يتطلع إليه أن تكون لدى الصحيفة مقاييس واضحة معلنة للأدباء تقوم عليها عملية اختيار الشخصية المكرمة، مع العناية بالتنويع بين الأدباء على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ومدارسهم، اعتمادًا على نقاد موضوعيين معتدلين، بالإضافة إلى تكريم المستحقات من الأديبات المؤثرات.
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) العدد (17859).
(2) العدد (17841).
(3) العددين (17823)، (17829).
(4) العدد (17643).
(5) العدد (17565).
(6) العدد (17643)، ص: 7، والعدد (17859)، ص: 6.
(7) العدد 17823، ص: 6.
(8) العدد (17859)، ص: 7.
(9) العدد 17643، ص: 8.
(10) العدد (17643)، ص: 7.
(11) العدد (17823)، ص: 11.
(12) العدد (17859)، ص: 9.
(13) العدد (17841)، ص: 10.
** **
- أ. د. فواز بن عبدالعزيز اللعبون