يلقى الحديث عن مواضيع الألم والحزن والفرح واللذة والسعادة رواجاً كبيراً لدى عموم الناس، أما المختصون من الأطباء والفلاسفة فليس الأمر لديهم كذلك لاهتمامهم بالأجوبة العقلية نحو تلك المسائل.
لماذا نتألم ونعيش لحظات صعبة حال وقوع الضرر؟ ماذا لو كانت الحياة بدون ألم؟ وما فائدة الشعور بالألم؟ هناك ما يسمى بالطب «اللاشعور بالألم» (Conqenital indifference to Pain) لأسباب تؤدي لتلف الأعصاب، الأمر الذي يحول دون الإحساس بالآلام ما ينتج عنه عدم الاهتمام وعدم القدرة على إدراك الخطر لانعدام النظام الداخلي للتحذير المتمثل بالشعور بالألم، الأمر الذي جعل من الألم هبة نشكر الله عليها لما لها من أثر كبير للخروج من المعاناة ومعرفة سبيل العلاج من الأوجاع.
إن كوابيس انعدام الشعور بالألم كما وصفها الطبيب بول براند في كتابه (هِبة الألم) (The gift of Pain) والذي صال وجال بين قارات العالم المختلفة يعالج مرضى انعدام الشعور بالألم واستعادته لهم! فرصة للنظر إلى الألم بوصفه ليس عدواً إنما صديقاً يجب التعايش معه، وبسبب أمراض منها الجذام والسكري واضطرابات الأعصاب وإصابات النخاع الشوكي وغيرها، والتي تعمل جميعها على تدمير مستشعرات الألم لدى المريض.
الدكتور بول براند ذكر في كتابه عدداً من القصص واللحظات المحزنة التي عاشها مع مرضى من بلدان عدة وتجاربه معهم، منهم من فقد الإحساس تجاه أعضاءه، ويرى أنها مجرد أعضاء لا فائدة منها، فمنهم من بترت أطرافه ومنهم فقد حواس كالبصر وغيره، وتجربته في التخفيف من السلوكيات المضرة بهم أو إنهاء معاناتهم مع اللاشعور بالألم، ويناقش أيضاً مجموعة من التساؤلات التي تدور حول الألم هل هو هبة أو امتحان، ولماذا علينا أن نعتبر الألم عدو بينما هو في الحقيقة هو صديق حميم جداً؟! وهل من الممكن أن تصور عالماً بدون ألم؟ وتحدث عن دور الألم في نظامنا الجسدي، والحسّي، كما قال: «الألم ليس هو العدو، إنما هو رائد مُخلص يُبلغك عن العدو!» تفاصيل كثيرة تجعلك تردد بين ثناياها «سبحان الله الذي جعل للألم حكمة ورحمة».
كما تطرق الكاتب للدور الكبير والمهم للمجتمع والنظام الاجتماعي في التخفيف من الألم وتسريع عملية التعافي، في مقارنة بين مجتمعات الشرق والغرب في مسألة التعاطي مع المريض.
ومع كون الألم هبة من الله وضرورة لتفادي المهلكات وعلاج الأسقام غير أنه ينبغي للإنسان أن ينشد في حياته الفرح، لأن الفرح يحمل في ذاته قوة تحرك الإنسان نحو ما يحبه حسب وصف الكاتب الفرنسي فريدريك لونوار صاحب كتاب «قوة الفرح» (The power of joy) يناقش فيه مسألة الفرح من منظور فلسفي، والفرق بينه وبين اللذة والسعادة وهل يمكن للإنسان الوصول إلى فرح دائم؟
وتعد تجربة الشعور بالإشباع وما يتبعه من إحساس باللذة هي التجربة الأكثر انتشاراً وفورية في حياة الإنسان، ومن ذلك اللذات الحسية كالأكل والشرب والراحة، بينما توجد لذات داخلية مصدرها القلب أو النفس كالشعور بلذة المعرفة، ويرى فريدريك أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش دون الشعور باللذة، فالحياة وإنجاز الواجبات فيها هي ضربٌ من السعي وراء اللذة حسب رأيه.
في الوقت ذاته تظهر مشكلة اللذة أنها لا تدوم؛ فالإحساس باللذة مرتبط بمؤثر خارجي لا بد من تجدده دائماً، كما أن الشعور باللذة في الغالب شعور متناقض، فكل إنسان يشعر برغبات لا بد من إشباعها، كما تظهر مشكلة اللذة الكبرى بأنها مع كونها ترضينا على نحو فوري، إلا أنها تضرنا على المدى الطويل كأكل الوجبات السريعة مثلاً، وهاتان المشكلتان دفعتا الفلاسفة إلى طرح سؤال.. هل يمكن وجود لذة دائمة غير مضرة؟ وانطلاقاً من جواب هذا السؤال ظهر مفهوم السعادة والفرح.
وقد رأى الفيلسوف اليوناني (إبيقور) أن الإكثار من اللذة يقتل اللذة نفسها، فيجب أن نكون حذرين في تناول الأشياء التي تشعرنا بالسعادة.
لم يعتن الفلاسفة القدماء بمسألة الفرح كما اعتنوا باللذة والسعادة لأن اللذة قابلة للتنظيم، أما الفرح فيأتي من غير تنظيم أو استجلاب، فلا يقرر المرء متى يفرح أو متى يحزن، فالفرح أمر غيرُ متوقع غالباً، وكان الفرح حاضراً عند الفلسفة الطاوية المنحدرة من التراث الصيني.
من الذين اعتنوا بفلسفة الفرح الفيلسوف الهولندي (باروخ سبينوزا) على الرغم مما عاناه في حياته من شدائد، فدراسته للسلوك الإنساني والأخلاق التي يدعو إليها تبدأ بالفرح وتنتهي بالفرح، ويعرف الفرح بأنه انتقال المرء من كمال أقل إلى كمال أكبر، ففي كل مرة نتطور ونحقق انتصارات أكبر وفقاً لطبيعتنا الخاصة سنكون في حالة أشد من الفرح.
فيما يرى الفيلسوف نيتشه أن الفرح هو المعيار الأخلاقي الذي يضفي شرعية على الفعل البشري، وهو حالة نفسية تنبع من داخل الإنسان، والفرح لديه هو القوة، فهو إثبات للحياة في مواجهة الموت، وينمو من خلال الاشتغال على الذات.
إن الفرح لا تتم دعوته وإنما يُصنع له المناخ المنتج له، فهو ليس أمراً طوعياً، وهناك عدد من العوامل المساعدة والتي تسمح بتهيئة البيئة المناسبة لنشأة الفرح، ومن تلك العوامل: الانتباه؛ فهو الذي يصلنا بالحواس، والفرح غالباً ينطلق عبر تجربة حسية، فلو شاهد المرء منظراً طبيعياً ما وهو منتبه إلى ما فيه من جمال وتفاصيل، فإنه سيشعر بالفرح جراء انتباهه إلى هذا المؤثر الخارجي، لأننا حين ننتبه نترك حواسنا لتنشغل بما تدرك إما مسموعاً أو مشاهداً أو غيره.
أيضاً من عوامل تهيئة البيئة المناسبة لنشأة الفرح المنح بلا مقابل، فيهب الإنسان غيره من دون انتظار مقابل لما يعطيه، وكذلك الشكر لمن يهب له شيئاً.
كذلك من عوامل استدعاء الفرح الحضور وهو أعمق من كوننا مجرد منتبهين لأنه انتباه يشمل وجودنا كله بالحواس والقلب والروح، فهو ليس استقبالاً أو تلقياً عادياً، وإنما استقبال منفتح للواقع والعالم.
ويذكر هنا الكاتب فريدريك لونوار أن للفرح أعداء هما النشوة والتعلق بملذات الدنيا والثاني هو الحسد، أما الفرح فهو عكس ذلك، لأنه ثمرة حب الخير للغير الذي يعني أن تسعد لسعادته، وحين تفرز المقارنة والغيرة والتعاسة فإن السرور بمزايا ونجاح الآخرين هو مصدر الفرح.
أما عن حالة الفرح الدائمة وغير المنتهية فأشار فريدريك لونروا أن أول من تساءل عن حالة الوصول لهذه الحالة هو الفيلسوف (باروخ سبينوزا) فيما يرى الكاتب أن الوصول له طريقان يكمل أحدهما الآخر، يتجه الأول إلى الذات نفسها ويطلق عليه فرح التحرر، والثاني ينطلق تجاه الآخرين ويعني التوافق مع العالم ويطلق عليه فرح التشارك، وهذان الطريقان يتوافقان مع ما سماه بعض الفلاسفة وكبار الروحانيين الفرح الكامل، وهو الفرح الذي لا يرتبط بسبب خارجي، ولا يقدر شيء على منعه.
إنه إذا ما تمت الإساءة لنا بشدة وإذا رفضنا من دون سبب على وجه خاطئ أحياناً، فإن هذه اللحظة يكون قد حان الوقت لترك كل شيء، فلم تعد هناك أهمية للغضب والحزن والحقد، وإذا استطاع المرء أن يتخلص من هذه المشاعر العدوانية فإنه سيكون في فرح كامل.
تتمحور شخصية الإنسان حول سلطتين هما الذات والذهن من وجهة نظر فريدريك لونروا ترتبط الذات بما نشعر به عفوياً من تجاذب وتنافر، وهذا الأمر إنما يهدف إلى بقاء الإنسان على قيد الحياة، وأما الذهن فإنه يساعد على بقاء الإنسان على قيد الحياة أيضاً عبر التفكير وتفسير الأحداث وتقييم المبررات لها، فيجعلنا نتقبل الواقع ونتأقلم معه مما يؤدي إلى استمتاعنا بالحياة.
إننا نرى الفرح التلقائي بالحياة لدى الأطفال قبل أن يعتريهم قلق الحياة ومشكلاتها، فتجدهم غارقين في حياتهم ولهوهم الخاص إلى أن تنتهي هذه المرحلة العمرية ثم لا يشعرون بالفرح، وتجد كذلك هذا الفرح لدى الذين يحيون حياة بسيطة طيبة كبسطاء الناس ممن ليس لديهم ما يعكر صفو حياتهم.
يعيب فريدريك لونروا على المجتمعات المادية الحديثة اهتمامها الكبير بتوفير سبل اللذة والراحة للبدن فيما أغفلت أسباب الفرح؛ الأمر الذي أدى بفقد الإنسان فرحه بما لديه وما يعنيه من استقبال تلقائي للحياة كما هي.
** **
- عثمان الأنصاري