للعربية مستويات متدرّجة في معايير التصويب والتفصيح، وهي: الفصحى واللهجات (اللغات) الفصيحة والمولّدات والعامّيّات، أعلاها الفصحى، لغة القرآن والشعر الجاهلي، وأدناها العاميّات المعاصرة، اللغة السوقية أو لغة الدهماء، وهي منبوذة عند أرباب اللغة وإن كانت لغة الخطاب اليومي لأكثر اللغويين حين يخالطون العامة ويمارسون حياتهم بعيدًا عن التصنّع والتفاصح.
?وإن كانت الفروق الاصطلاحية بين المستويات الأربعة جلية ظاهرة لأهل الفن فإننا نرى بعض اللغويين لا يكادون يفرقون بين اللهجات والعاميات وحتى المولّدات، وتضطرب مفاهيمها عندهم، وربما وصفوا اللهجة بأنها عامية أو العامية بأنها لهجة، وربما وصفوا المولد بأنه من كلام العامة، وهذا كله باطل، فالعامية ليست لهجة وليست من المولّد بالاصطلاح اللغوي.
واللهجة في اصطلاح اللغويات العربية هي ما كان يُسمّى عند القدماء (لغة) وهي المستوى النموذجي الفصيح الذي يأتي بعد الأفصح القرآني ونظائره من كلام العرب وأشعارهم، ولم تزل لهجات العرب المعاصرين المنبعيين متصلةً بأصولها في المستويين الصوتي والصرفي إلى زماننا، وكانت لهجاتهم إلى عهد قريب نقية طرية قبل طغيان اللغة العامة البيضاء، لغة العولمة والإعلام، فإن خالف الكلام كلامَ العرب الأوائل أو لغاتهم الفصيحة في الأصوات أو التصريف أو النحو فقد تخلّى بذلك عن صفة اللهجة بمعنى اللغة، وانحطّ إلى درك لحن العامّة، وعلى اللغويين اليوم أن يميزوا بين اللهجات والعاميات وبين المولّدات والعامّيّات، فإني رأيت كثيرًا من طلبة العلم يخلطون بين اللهجات والعاميات، وفي الخلط بينهما فساد وضرر، وبخاصة حين يكون ذلك في أقسام اللغة، وينجم عن ذلك ظلمًا صُراحًا للهجاتٍ فصاح، هي المستوى الثاني بعد الفصحى، تمثل حقلا خصيبًا في لغتنا لا يمكن إغفاله.
وإن من أمثلة اللهجة في المستوى الصوتي ما قرره اللغويون المتقدمون مما يجوز في حقل الأصوات من تنويعات كالتفخيم والإمالة والهمز والتسهيل والإبدال، أو تغييرات صوتية مشهورة في بعض الحروف كالعجعجة والعنعنة والفحفحة، والمعاقبة، وهي دخول الياء على الواو ودخول الواو على الياء، من غير علة صوتية أو صرفية، وكذلك الانحرافات اللهجية القديمة المرصودة لبعض الأصوات، كانحرافات الجيم والشين والقاف، ومنها الصوت المنحرف عن القاف الواقع بينها وبين الكاف وهو (القيف) وهو صوت شائع في لهجات البادية منذ عصور الاحتجاج، وكل ما اتصل من تغييرات الأصوات بأصولٍ قديمة من لغات القبائل فهو لهجة، وأما ما لا أصل له فهو من كلام العامّة وتحريفاتهم.
والتغييرات اللهجية في البنية كثيرة ذكرتها المصادر، ومنها قصر الممدود ومد المقصور، وكسر فاء فعيل مثل حِليب وحِديد وسِعيد، وتصحيح الإعلال في نحو مبيوع ومخيوط، وهي لهجة تميم وغيرهم، وأما ما يخالف البنية باحذف أو تغيير أو زيادة، مما لا نجد له أصلا في اللهجات القديمة فهو من العامّيّة، كقولهم: (مُودماني) بمعنى آدميّ، و(نَبِي) بمعنى (نبغي) و(حِنّا) أي نحن، و(ليا) بمعنى إلى، (ومِنّاكْ)! أي: من هناك، و(اللي) و(ذولا) و(ذولاك) وما شاكل ذلك فهو عامّيّ لا شأن له بالفصحى ولا بلهجاتها الفصيحة.
وأما المولدات فلغة ولّدها المولّدون بعد عصور الاحتجاج، لم ينطق بها العرب الأوائل، ولكنها جاءت على سَمْت كلامهم، وما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، كما قال كبار اللغويين المتقدمين، وبالتوليد تُجدد اللغة شبابها وتقاوم الهرم، ولا حاجة لذكر أمثلة من المولد فهو معلوم، ولكن هنالك ما يلابس المولد مما قالته العرب وفات المعاجم تدوينه، وهو ما أسمّيه الفوائت الظنية، وهو باب واسع من الألفاظ، له ضوابط وشروط إن تحققت فيه بلغ درجة الظن الراجح بأنه فائت، ومع ذلك يبقى احتمال التوليد؛ لأن الظن لا يصل إلى اليقين، وتحدثت عنه بالتفصيل في مقال سابق بعنوان (نظرية الفوائت الظنية وضوابطها) نشر في هذا الجريدة بتاريخ: 11/ 3/ 2022م.
وفي الختام أنبّه على ثلاثة أمور مهمّة:
الأول: أنّ من نصفهم بأنهم عامّة قد يجري على ألسنتهم أطيافٌ من اللغة من المستويات الأربعة على تفاوت بينها، فلغتهم خليط من تلك المستويات، وإن غلبت عليها العامية وفساد المستوى النحوي فسادًا تامًّا.
والثاني: أنّ بعض اللسانيين المعاصرين قد يُفتنون بدراسة العامّيّة لارتباطها بلغة الخطاب اليومي، وهو منهج لساني حديث غير مألوف في اللغويات العربية المعيارية، فإن كان غرض الدراسة خدمةَ العامية بوصفها وتقعيدها وإقرارها وتثبيت أركانها فهو اتجاه مرفوض ينطوي على ضرر عظيم بالفصحى، فإن كان غرض الدراسة الكشف عن أسباب انحرافات العامية والبحث عن السبل المثلى لإصلاحها وتثقيف العامة وتقريبهم إلى الفصحى والفصيحة فأمر مقبول.
والثالث: أنّ على من يقلل من قيمة اللهجات أو يحذر من دراستها في أروقة الأقسام اللغوية بحجة أنها من العاميات أن يصحح مفاهيمه اللغوية، ويحرر المصطلحات، ويدرك ما بين اللهجات والعاميات من فروق، وعليه أن يعلم أن اللهجات تمثل حقلا خصيبا في لغتنا لا يمكن إغفاله ما دامت هذه اللغة تنبض بالحياة.
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي