الأول هو أبو المحاسن محمد بن نصر، المشهور بابن عُنين الأنصاري الدمشقي. وُلد في دمشق في سنة 549 هـ.
نشأ ابن عُنين وتعلم على أيدي طائفة من العلماء والفقهاء بالجامع الأموي، منهم الحافظ بن عساكر، والنحوي أبو الثناء الشيزري، والفقيه قطب الدين النيسابوري وله باع طويل في علوم عصره لا سيما النحو والفقه.
كان خفيف الروح كثير الدعابة محبًا للسخرية حاضر النكتة. عاش متكسبًا بالشعر والوظيفة عند المتأخرين من ملوك الدولة الأيوبية، وتوفي بدمشق سنة 630.
وأما فتيان الشاغوري فوُلد في بانياس عام 534 وعاش طفولته في حي الشاغور بدمشق، وعمل معلمًا في الزبداني. فيه تشيُّع كصاحبه ابن عنين، اتصل بحكام عصره، وله فيهم مدائح كثيرة. أشهر ممدوحيه الملك العادل، وبدر الدين مودود، ونجم الدين بن أبي عصرون، وصفي الدين ابن شكر.
ويعترف فتيان بأن هدفه من مديحه التكسب، فيقول:
نهدي له المديح في أوراقه
فنأخذ الوُرْق به والذهبا
وعلى الرغم من قربه من الولاة واستفادته منهم، إذ رتب له صلاح الدين - في عهده - مرتبًا مقداره خمسة دنانير شهريًا، إلا أننا نجد له شكاوى من الفقر والعيال. وتوفي سنة 615.
وكذلك كان ابن عنين غنيًا، وعاش عزبًا ومع ذلك ظل يتكسب ويستجدي حتى مات.
ولم يمدح أي من الصديقين نور الدين زنكي، ولعل ذلك بسبب ما عُرف عنه من عزوف عن الشعراء، واستغناء عن مدائحهم.
تزعم الشاعران غرض الهجاء، فلم يتركا أحدًا من علية القوم بمن فيهم القضاة، حتى القاضي الفاضل الذي كان معروفًا بثقة صلاح الدين الأيوبي به، والاعتماد عليه في إدارة البلاد، إلا أن ابن عنين امتاز عن صديقه بقصيدته الشهيرة (مقراض الأعراض) التي بلغ فيها الغاية في الإقذاع، ولم ينج أحد من لسانه حتى صلاح الدين، فكان ذلك سببًا في إخراجه من دمشق منفيًا. وربما كان فتيان أكثر حصافة من رفيقه، فقد استثنى صلاح الدين من هجائه، بل وامتدحه بعدد من القصائد.
وكان مما حرض الشاعرين على هجاء الولاة والفاسدين من القضاة والموظفين ما أصاب الشام بين عامي 573-574 من قحط وجدب وغلاء.
ومع سلاطة لسان ابن عنين، وحذر الشعراء من التحرش به إلا أن صديقه فتيان أشبعه هجاء مرًا، ولولا ثقته في تسامح صديقه معه ما تجرأ على هذا الفعل. وإلا فمن يتجرأ أن يقول لابن عنين ما قاله فتيان:
ابن عنين في كل زندقة
أمسى وأضحى فعاله مثلا
لم يتنفس إلا على قدحٍ
ولم يبتْ غير راكبٍ ....
وقد تتالت الأهاجي المتبادلة بينهما، لكنها لم تعدُ المزاح. فقد قال فتيان لابن عنين:
من يُرجِّي خيرا من ابن عُنينٍ
لم ينل منه غير خفي حنينِ
ورد ابن عنين عليه بقوله:
يا من يلقب ظلما بالشهاب وإن
أضحى بظلمته قد أظلم الشهبا
كانت الصداقة بينهما عميقة، وما هذه الأهاجي المتبادلة سوى مظهر من مظاهر الصداقة. فقد مرّ ابن عنين بالزبداني، وقصد فتيان في مدرسته يريد السلام عليه فلم يجده، فأخذ اللوح من أحد الصبية، وكتب فيه:
أتيت فما حظيت لسوء حظي
بخدمة سيدي ورجعت خائب
إمام ما تيممناه إلا
رجعنا بالرغائب والغرائب
بل نجد العداوة الظاهرة بينهما تتحول إلى تودد أقرب إلى التملق، حين يحتاج أحدهما إلى الآخر. وهذه أبيات كتبها فتيان لابن عنين، يبدو فيها التملق لصديقه بدءًا من تكنيته:
فأتنا يا أبا المحاسن إنا
كنجوم وأنت للشرب بدر
وأتنا بالمدام إنا أناس
ما لنا عن شرب المدامة صبر
وتفضل كما عهدت ودع
عنك اعتذارا فليس يقبل عذر
وإذا ما تأخر الخمر عنا
كان للشعر فيك نهي وأمر
ولعل في الأبيات المتقدمة ما يكشف عن سلوك الشاعرين فضلاً عن صداقتهما المتينة.
** **
- سعد عيد الله الغريبي