عند الشعب الألماني مثلٌ يقول:(المعرفةُ هي أن تعلم أين ذُكرت المعلومةُ!). وقد صار هذا القول القديم أكثر وضوحاً في زمننا اليوم؛ فقد صارت المعرفة بمعناها العام مبذولةً في المجتمع بعد الثورة الرقمية وانفتاح الآفاق المعرفية من كل مصدرٍ وجهةٍ، حتى لقد أصبح الجيل الجديد لا يكلف نفسه عناء النظر في شيء مما كان ينظر فيه الجيل السابق قبله، ويبذل فيه الجهد والوقت والمال، فكل شيء مبذول وكل كتابٍ موجودٌ!!.
وهذا يدخلُنا في جدليةٍ ومساءلةٍ ممكنةٍ حول تعريف المثقف اليوم، أهو من يعرف مكان المعلومة ويستخرجها أم هو من ينتجُها أو من يعملُ بها؟. لست في حاجة هنا إلى الحديث عن تعريف الثقافة والجدل حول معناها الفلسفي! ولكني أقصد بالمثقف هنا من يحوزُ نصيباً جيداً من المعرفة العلمية في مجالاتٍ عدة، وغالباً ما يكون ذلك في العلوم الإنسانية بصفةٍ عامة. والرؤيةُ المنتشرة لدينا في فضاءات الإعلام العربي تؤيد هذا القول بأن الثقافة هي المعرفةُ الشاملة.
وهنا تأتي مداخلةٌ مهمةٌ من خبراء التربية والتنمية تقول إن المثقّف ليس كاسبَ المعلومة ووعاءها؛ فهذا لا يعدو أن يكون نسخةً من كتاب، ولكنّ المثقفَ هو من ترى أثر المعرفة في سلوكه وأدبه ورقيّه الإنساني ورغبتِه في نفعِ مَن حوله بالعمل أو بالرأي أو بهما؛ لأن الثقافة رسالةٌ، وليست معلوماتٍ فقط، بل يلتحق بها نتاج المعرفة من سلوك وتحضر وفهم.
وهنا سؤالٌ حول دورِ المثقّف: أينبغي أن يكون سلبياً أم إيجابياً في مجتمعه. وفي موضوع الرسالة النافعة تتداخل معنا الفروقُ بين المثقف والعالم؛ فمن منهما هو أولى بالتأثير؟ أم أنه لا فرق بين المثقف والعالم؟.
كان سلفُ الأمة ربما أثنوا على العمل النافع القليل، ولو مع قليلٍ من العلم، ورأوه خيراً من العلم الكثير بلا عملٍ، بل إن العلمَ الغزير بلا رسالةٍ نافعةٍ، ونشرٍ للخير منقصةٌ لصاحبه في الدنيا والآخرة.
وهذا كله بلا شك يلقي مسؤولية عسيرة ومهمة شاقة على التربية في الأسرة والمدارس والمناهج...فما هو المهم؟ أهي المعلومة أم أثر المعلومة في المجتمع من حيث التنمية والتقدم والأخلاق والأمن والإنتاج والرفاهية؟. وهو سؤال يشبه السؤال القديم الذي ووجهت به الرأسمالية الحديثة بعد أن وجهت العالم نحو الإنتاج والاستهلاك ووضعت التقدم الاقتصادي قبل المعايير الأخلاقية، ثم انبثقت من ذلك في النصف الأول من القرن العشرين فلسفات تضع أولوياتها في الجانب المعيش، وأن الحياة ذاتها هدفٌ ومنها الفلسفة الوجودية.
ومن المشكلات التي تحيط بالمثقف اليوم إشكالية تحديد الأولويات أو ما المهمّ في مجال المعرفة والرسالة! وتحديد المهمّ ليس بالأمر السّهل؛ فقد يتعلق المرء بشيءٍ غير مفيدٍ، ويولع به وهو يظنه مفيداً، وقد رأينا حولنا أناساً قضوا أعمارهم في أمورٍ ندمُوا عليها، أو ندمُوا على فرصٍ ضاعت...وتبدو المهمة أصعب ما تكون اليوم لاختلاط المفاهيم فما كان خاصاً بمجتمعٍ مّا صار مفتوحاً للجميع، وما كان مهماً قبل عشرين سنةٍ صار غير ذلك، بل إن بعض الآداب والسلوكيات نفسها صارت متغيرة مع تغير رؤية العالم وتداخل الرؤى شرقاً وغرباً. وسيطرح هذا بعد وقتٍ قصيرٍ على مجتمعاتنا السؤال الفلسفي القديم حول مصدر الأخلاق. والمشكلة قد تبدو غير مفهومةٍ في أي مجتمعٍ إسلامي؛ لأن الدين مصدر الأخلاق. وكذلك القانون في البلاد التي لا تتخذ الدين مصدراً لأنظمتها...
ومع تداخل الأولويات واختلاط الأمور في المجتمعات والعقول المعاصرة صار بعض المفكرين يسمون عصرنا هذا عصر التفاهة أي أن المجتمعات تتعلق بما يجلب إليها الغرائب والطرائف والمتعة العابرة أكثر مما يجلب إليها المفيد والنافع في بناء المجتمع. وهذه التفاهة تحدث لدى المرء جهلاً بالذات والجهل بالذات سوف يقود إلى التعصّب مع الجهل؛ لأن رأسه يخلو من المعرفة الحقيقية، وهو بالتالي لا يرى العالم بصورة صحيحة.
ومن مظاهر هذا التحول ضعف منظومة العلاقات الإنسانية العامة وتحولها إلى علاقات قائمة على المصلحة والمتعة فقط. وهذا الضعف في العلاقات مؤلمٌ؛ فهو يصيب القلوب بالوحشة والانعزال... وعدم الثقة بالآخر...
ومن مظاهر هذا التحول نحو التفاهة الثقافية اختفاء الشغف العلمي عند كثير من الأبناء والطلاب من أبناء الجيل الجديد. ذلك الشغف العلمي الموجود عند السابقين وهو شغف البحث عن المعلومة ولذّة الظفر بها، وتذوقها وتمثّلها. بدأت هذه النشوةُ والعشق المعرفي تتلاشى مع ثورة المعلومات؛ إذ أصبحت المعلومة عند طرف إصبع كل شخص بل كل مراهقٍ صغير. لقد عتُقت تلك الروعة وتذوّق الجمال والآداب والفنون ومتعة النصّ...فلم يبق منها إلا قطرات ندى على سطح ورقةِ...وهذه شكوى عامةٌ في العالم كلّه! ومن هنا بدأ بعض المخلصين في مجتمعاتٍ عديدةٍ في الرجوع إلى الوراءِ لتجديد الذّائقة كدراسة الآداب والفنون بأنواعها وتربيةِ الذوق وتوسيع المداركِ بدراسة الدين والفلسفة والتاريخ مجدداً ...لبعث الشعور الحيوي الصحيح الذي يعتمد على المعرفة الحقة، ولا يعتمد على ثقافة التفاهة.
ويبقى السؤال مع ثورة التقنية مطروحاً: مَن المثقف؟ أهُو من يأتي بالجديد، أم من يأتي بالجيّد؟.
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com