د.محمد بن عبدالرحمن البشر
امتداداً لما ذكرنا في مقالات سابقة عن زيارة الرحالة الألماني نيبور إلى الشرق عام 1761 ميلادية، وما كتبه عن ما شاهده، فقد نالت مشاهداته وأنواع التسلية التي رآها لاسيما في القاهرة نصيباً من كتاباته، وقد وصفها وصفاً منطلقاً من خلفية ثقافية سابقة، وما علق بذهنه خلال رحلته منطلقاً من الدنمارك، مروراً بمحطات مثل إيطاليا، ومالطا، والقسطنطينية، ثم الإسكندرية، وبعض القرى في طريقه إلى القاهرة، وما جابه من مشاكل من بعض الأفراد جعلت حكمه مبالغاً فيه على بعض الظواهر والمسببات، وجميل أن يخفض لنا هذا الرحالة شيئاً مما كان يتسلى به الناس في القاهرة والمشرق بشكل عام في زمن لم يسطر فيه أبناء الشرق ما يكفي من حقائق، لا سيما تلك المتعلقة بالنواحي الاجتماعية والسلوكية.
وفي حديثه عن التسلية فقد رأى أنها تختلف طبقاً لفئات المجتمع، فالطبقة المتسيدة من أتراك وأعوانهم تختلف عن تلك الخاصة بخدمهم، فالطبقة المتسيدة تمارس التسلية من خلال الانطلاق على ظهور الخيل دون سرج اثنان اثنان، والصراع باستخدام العصى من فوق ظهور الخيل، أو رمي السهام نحو أعمدة معدة لغرض المنافسة، أو إطلاق الرصاص على كومة رمل في حوض، وهم يجتمعون مع خدمهم وحشمهم مرتين في الأسبوع في مكان يقال له المصطبة، أما الخدم فإنهم يتسلون بالصراع مشاة، ثم يتدربون على القفز على ظهور الخيل، والتدريب على ذلك، وقد يؤدي التميز في ذلك إلى ارتفاع درجة بعض المتميزين، والانتقال إلى مصاف الصفوة، وهناك تسلية موسمية أخرى للطبقة المتسيدة تتم عند فيضان النيل حيث تركب تلك الفئة مراكب بحرية خاصة بهم، ويجملونها بأنواع الزينة، ويسيرون بها في البحيرات، وقد يصاحب ذلك شيء من الموسيقى التي قد يرتفع صوتها ليسمعها السكان.
أما التسلية عند الفلاحين وعامة الشعب، فإن من ضمن تسليتهم التقابل والصراع بالعصي التي يتم توجيهها إلى الرأس، وربما تصيبه، وكذلك المصارعة بالأيدي التي لا تصل إلى الوفاة، مثل تلك التي تقع أحيانًا في أوروبا، ويضعون على سواعدهم لفيفة من القماش بمثابة الترس، ويمكننا القول إن هذه الطريقة في التسلية مشابهة لما يستعرض به الممثلون على المسرح في زماننا هذا في مصر، كجزء من التراث المتوارث.
وفي القرى والأرياف ايضاً يتسلون بالسباق، أو القفز الطويل، أو رمي الحصى وغيرها من التسالي، ومثل ذلك يفعله فلاحو وقرويو أوروبا، والجميع سواء في المدن أو القرى المصرية، من المسؤولين أو العامة، يحتفلون احتفالا بهيجاً عند انطلاق قوافل الحج المتوجهة إلى مكة المكرمة، ويصاحب ذلك لباس الزينة، وضرب الدفوف، والابتهاج، ولا يخلو المنظر من دموع تذرف على وداع قريب أو صديق، كما أنهم يقيمون الاحتفالات الدينية قرب الأضرحة الخاصة ببعض الأولياء الصالحين، كما يعتقدون، وفي المقابل نجد أن المسيحيين يحيون أعيادهم الكثيرة ويتشاركون معاً في تلك الاعياد جميعا مسلمين ومسيحيين، مما يعطي اشارة إلى التآلف خلاف ما رسمه الرحالة نيبور وغيره.
وينقل لنا الرحالة نيبور أن المشرقيين في مصر وسوريا والجزيرة العربية يفضلون التسلية بالالتقاء في المقاهي لقضاء سهرات جميلة يستمعون فيها إلى الموسيقى والمغنيين الذين يتكسبون من غنائهم، لكنه اضاف ملاحظة لا اجده محقاً فيها، حيث ذكر ان المجتمعين يسودهم الصمت حيث لا يتحدثون إلى بعضهم وإنما يعيشون مع غليوناتهم يناجونها، ويبثون من خلال دخانها أحزانهم وآلامهم للخروج من حياة الكآبة التي يعيشونها بسبب الظلم والاستبداد المسلط عليهم، وطقسهم الذي يؤدي إلى الكآبة، وهو يتساءل عن ولعهم بالتدخين باستخدام الغليون، ويقول، وهو غير محق في نظري، ربما انه يجعلهم يحسون بشيء من التخدير والراحة، ليعوضها عن الخمر المحرم عليهم، كما انه يعطيهم بعض الاسترخاء، كما يفعل الأفيون، ولهذا فهم يزينون غليوناتهم بأنواع من الزينة لارتباطهم بها، كما انهم يستخدمون الأرجيلة الفارسية وغير الفارسية.
تساءل عن ما يحدث داخل البيوت، وكان يصعب عليه معرفة ما يجري بمرأى العين، ويقول انه سمع ممن يثق بهم أن الصمت والكآبة هي السائدة داخل المنازل، لاسيما أن الطابع الذكوري هو السائد على ثقافة تلك الشعوب، وأن النساء ليس لهن نصيب في مشاركة الرجال في افراحهم، لاسيما أن البطالة والقهر الذي يعيشونه يجعلهم كثيري الصمت، فلا يتحدثون مع زوجاته، ويطيلون التفكير في مآل ما يملكونه بسبب تسلط الحكام من الأتراك وغيرهم الذين قد يصادرون أموالهم دون سبب مقنع، فهم في تحفز دائم.