أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ملاعبة الصيد نفحةٌ جماليةٌ من محبٍ لكم؛ وهو: أبو عبدالرحمن محمد بن عمر بن عبدالرحمن الظاهري صاحب هذا المذهب منذ نبوغه العلمي إلى أن يلقى ربه على الصدق بملازمته ما يتفق به إيمانه من قبل كبار العلماء الظاهريين عفا الله عني وعنكم وعنهم وعن كافة إخواني المسلمين المحافظين على دينهم الذي اجتهدوا في تحقيقه وإن أخطؤوا عن غير قصدٍ؛ فإن الله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمن الصادق إذا أخطأ عن غير قصدٍ؛ بل عن اجتهادٍ، والله المستعان.. وإليكم اجتهادي مع أبي تراب الظاهري رحمه الله، ولقد أدركه الخشوع والتوبة الصادقة، وبكاؤه آخر عمره، وكنت في معية الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى، وتوجيهه الصادق للعاملين لديه، وكان الشيخ أبو تراب الظاهري رحمه الله تعالى يكتب في مجلة (المنهل) بعنوان (قيد الصيد) إلا أنه لم يستمر.
قال أبو عبدالرحمن: وأنا لا أقيد الصيد وحسب؛ بل ألاعبه أحياناً كثيرة فكرياً وعاطفياً؛ لهذا آثرت تسمية أحد كتبي بعنوان (ملاعبة الصيد)؛ وأما القيد فمفهوم من كونه صيداً؛ وكان ابن فارس من بني عامر؛ وهو (أبو براء) يوصف بـ(ملاعب)، وأنا وأترابي نلاعب أسنة الأقلام، وكنت أنشر في الجريدة المسائية تحت هذا العنوان؛ إلا أن كتابي عن تحقيقات في نصاب (ملاعبة الصيد) نشر منها قديماً في الصحف، وجمهور منها لم ينشر؛ ومنها بحث قيم عن التوكل على الله سبحانه وتعالى على كل حال؛ فقد قال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى في كتابه (مقاييس اللغة) 5/ 135: «الواو والكاف واللام أصل صحيح يدل على اعتماد غيرك في أمرك».
قال أبو عبدالرحمن: إذن التوكل في لغة العرب يعني: إظهار الإنسان العجز في الأمر، واعتماده على غيره؛ ولهذا لا يجوز شرعاً التوكل على غير الله ، ويجب التوكل على الله.. قال الله سبحانه وتعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (سورة إبراهيم/ 11).. والنصوص في هذا كثيرة، والتوكل على الله في كل حال؛ فمع القدرة على فعل الأسباب يفعلها ويعلم أنه يفعل شيئاً مأموراً به شرعاً ويأثم بتركه، ويعلم أن الثقة بالله خالق السبب، وفي حال العجز عن فعل السبب يفوض الأمر بإطلاق إلى الله سبحانه، ويعلم بمقتضى توكله أن ألطاف الله أعم من الأسباب البشرية المنظورة؛ ولا يتحقق كمال التوكل إلا بتحقق كمال الإيمان بالله سبحانه؛ فمن حقق العلم بهيمنة الخالق صغرت عنده قدرة المخلوق، وأما من ترك الأسباب وهو قادر عليها فليس فعله مشروعاً، ومن ثم لا يكون توكلاً على الله؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع ؛ وإنما ظن بعضهم أن التوكل على الله، وعدم فعل الأسباب ليس مشروعاً وحسب؛ بل هو غاية الإيمان، واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتفق عليه عندما عرضت الأمم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أمته ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ووصفهم صلى الله عليه وسلم بأنهم: الذين لا يرقون ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.. قال النووي رحمه الله تعالى: «هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله تعالى؛ فلم يسعوا في دفع ما أوقعه بهم، ولا شك في رجحان هذه الحال وفضيلة صاحبها، وأما تطببه صلى الله عليه وسلم فلبيان الجواز».. انظر كتاب (دليل الفالحين) 1/ 261، وقبل النووي ذهب إلى هذا الخطابي.
قال أبو عبدالرحمن: الصواب أن التوكل على الله توكل يلغي الأسباب المقدور عليها ليس توكلاً شرعياً؛ فكيف يكون صاحب هذا التوكل أرفع مرتبة؟.. وأما الاحتجاج بالحديث المذكور آنفاً فاحتجاج بالنص في غير موضعه، وذلك لأمور: أولها ليس في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ذكرٌ لأسباب جلب الرزق، وطلب الولد، والحرف والصناعات والزراعة.. وكل هذه الأمور رتب الله حصولها على فعل أسبابها، وقد علم بضرورة الشريعة أن من ترك هذه الأسباب وهو قادر عليها يكون عاصياً لله سبحانه وتعالى.. وثانيها أن من آلمه ضرسه ألماً شديداً، وصبر عليه بقية عمره صبراً يعاني فيه ألماً؛ فلا يستحضر عبادته لربه، ولا يستقيم سعيه في حياته وسكنه؛ فلا يكون صبره قربةً ولا توكلاً؛ بل يكون آثماً في تركه بذل الأسباب بعلاج يسكن الضرس أو يقلعه، وهذا تطببٌ ليس في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ وإنما المذكور في حديث ابن عباس الرقية والكي والتطير.. وثالثها ورد الشرع المطهر بالرقية من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، ووردت النصوص الآمرة بالدعاء المرغبة فيه، والرقية الشرعية نوع من الدعاء واللجوء إلى الله؛ فلا يجوز بعد هذا أن يقال: إن الرقية للجواز وحسب؛ بل هي مندوب إليها مرغوب فيها؛ فصح أن المنفي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما رقىً غير شرعية كالتعويذ برقية عن ألم لم يقع بعد؛ فالمنهي عنه من الرقية هو المشار إليه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتولة شرك».. والتطير محرم اعتقاده شرعاً؛ فدل السياق على أن المراد الرقى المحرمة.. ورابعها أن المحقق أثبت في متن رواية البخاري كلمة (لا يكتوون) بدلاً من (لا يرقون)؛ فيكون في المتن اضطراب يقتضي الترجيح، ومن الترجيح أن الكي ليس في سياق المحذورات من الرقى والتطير، وبعض الأدواء لا شفاء لها إلا بالله ثم بالكي: كذات الجنب، وعرق النساء.. والكي آخر الطب؛ فيكون بعد يأس من الأسباب، وتحصيل سبب آخر، والتماس الأسباب لا ينافي التوكل، وهو خلاف اليأس.. وخامسها أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير) لا دلالة فيه على التوكل؛ وإنما هو عن رقة القلوب، ورقة القلب مطلب شريف بنصوص شرعية كثيرة، وقد أورد البقاعي رحمه الله تعالى، قول رجل من قيسلرجل من عذرة: والله ما قلوبكم إلا كقلوب الطير تهفو من العشق.. لا يزال أحدكم قد مات عشقاً.. انظر كتاب ( أسواق العشاق) 6/ب.
قال أبو عبدالرحمن: هكذا تفهم قلوب الطير، ولو فرض جدلاً أن الحديث عن التوكل لكان المراد التوكل مع تعاطي الأسباب؛ لأن الطير مع رقة أفئدتها تغدو للأسباب.. وسادسها مما يدل على أن التوكل يكون مع تعاطي الأسباب حديث ابن عمرو رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه والحاكم.. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً).. وللبيهقي كلامٌ مليحٌ حول هذا الحديث؛ إذ قال: «ليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق؛ لأن الطير إذا غدت فإنها تغدو لطلب الرزق؛ وإنما أراد والله أعلم: لو توكلوا على الله تعالى في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم، ورأوا أن الخير بيده، ومن عنده: لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير.. لكنهم يعتمدون على قوتهم وجلدهم ويغشون ويكذبون ولا ينصحون.. وهذا خلاف التوكل».. انظر كتاب (دليل الفالحين) 1/ 272 عن شعب الإيمان للبيهقي.. وسابعها من الدليل على مشروعية وضرورة التوكل عند انقطاع السبب حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه المتفق عليه.. قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!) .
قال أبو عبدالرحمن: انقطع الجهد البشري باللجوء في الغار، فلم يبق إلا التوكل.. ومثل ذلك حديث جابر المتفق عليه عن الأعرابي الذي اخترط سيفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (الله) (ثلاثاً)؛ فخرط السيف على نائم يعني انقطاع السبب البشري.. وثامنها في الحديث الذي رواه الترمذي بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه.. قال: كان أخوان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (فلعلك ترزق به).. قال ابن علان: «فيه تنبيه على أن من انقطع إلى الله، واكتفى بتدبيره عن تدبير نفسه، وسكن تحت جري مقاديره كفاه مهماته».. انظر كتاب (دليل الفالحين) 1/ 281 .
قال أبو عبدالرحمن: حاشى لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحض على ترك الأسباب، والنصوص الشرعية الأخرى أوجبت الضرب في الأرض والاحتراف والكسب والعمل؛ وإنما في الحديث ترغيب المحترف بالبذل لأخيه، وأما الأخ غير المحترف فلم يرد في الحديث عنه نصٌ؛ فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم سيأمره بالحرفة بعد فراغه من طلب العلم، ويكون بذل أخيه له من التعاون على البر والتقوى، ويحتمل أنه رأى فيه ضعفاً عن الحرفة، وإلى لقاءٍ قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)
- عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -