د. محمد بن إبراهيم الملحم
عند الحديث عن تاريخ التعليم المنزلي فيجدر تناوله في أهم دولة تطبقه بشكل واسع ومقنن وهي الولايات المتحدة الأمريكية وجدير بالذكر أن انتشار المدارس والتعليم الحكومي الإلزامي في الولايات المتحدة الأمريكية بدأ في القرن التاسع عشر في ولاية ماساشوستس واستقر وتكامل عبر كل الولايات في عشرينات القرن العشرين (1920) ولكن ظهرت معه قوانين تمنع التعليم المنزلي الذي كان هو السائد قبل انتشار فكرة المدرسة، وبعد ذلك فإن التعليم المنزلي الحالي بدأ منذ الخمسينات الميلادية إلا أنها كانت بداية متواضعة تبعها حركة من نشطاء نحو التعليم المنزلي في الستينات الميلادية بدأها اثنان هما بول قودمان Paul Goodman وجون هولت John Holt ، حيث نشر الأول كتابه Compulsory Miseducation ويمكن أن أترجمه بـ«سوء التعليم الإجباري» والثاني نشر كتابه How Children Fail أو «كيف يفشل الأطفال» ويشير فيه إلى أن التعليم النظامي المدرسي (الإجباري آنذاك) هو سبب فشل الأطفال، وهذا الفشل من وجهة نظره هو في عدم تفوقهم في الواقع مقارنة بمن كانوا قبلهم في العقود السابقة حينما كان التعليم المنزلي متاحاً بينما تم تحريمه وتجريمه بعد انتشار المدارس كما أسلفت.
والواقع أن نشاط جون هولت كان مركزاً ومتواصلاً نحو هذا الموضوع لتعتبره كثير من أدبيات هذا الموضوع رائد حركة التدريس المنزلي أو بتعبير آخر «اللا مدرسة» Unschooling أو Deschooling لاسيما أنه نشر 11 كتاباً وأخرج مطبوعة دورية حول ذلك وتناولت كتبه حقوق الأطفال في حرية الاختيار، ومشكلات المدرسة المعاصرة وتقييدها لحرية الأطفال وتأثير ذلك على تعلمهم التعلم الأصيل الذي يمكن يصلوه لو لم تقيدهم المدرسة، كما أنه في أواخر كتبه في السبعينات الميلادية تقدم خطوات في الكتابة للوالدين حول كيف يمكنهم تعليم أطفالهم في المنزل من خلال كتابين مهمين وتبعهما كتاب ثالث لكنه طبع عام 1989 بعد وفاته عام 1985 لأهميته لمجتمع التعليم المنزلي وعنوانه «التعلّم طوال الوقت: كيف يبدأ الأطفال الصغار القراءة والكتابة والعد واستكشاف العالم بدون أن يتم تعليمهم» Learning All the Time: How Small Children Begin to Read, Write, Count and Investigate the World, Without Being Taught
وحركة نشطاء التعليم المنزلي استمرت في كفاحها ففي السبعينات نشر إيفان إلليش Ivan Illich كتابه Deschooling Society «مجتمع اللا مدرسة»، وفي الثمانينات (1981) نشر كل من ريموند ودوروثي مور Raymond and Dorothy Moore كتابهما Home Grown Kids «الأطفال المنشأين منزليا» والذي حذَّرا فيه من أن تنشئة الطفل قبل سن معينة من خلال المدرسة يضر به أكثر مما ينفع، وهكذا فإن هذه الحركة المناهضة لمفهوم المدرسة والداعية إلى العودة للأصل في التعليم بالمنزل آتت أكلها، حيث أثر ذلك كله ووجدت هذه الدعوات استجابة من الحكومات فبدأت عدد من الولايات في إصدار قوانين تسمح بالتعليم المنزلي وبحلول عام 1993 أصبح مقنناً في جميع الولايات الخمسين للدولة.
جدير بالذكر أن هناك عامل مهم ساعد على انتشار التعليم المنزلي في بداياته في الخمسينات والستينات وهو الأسر التي لديها مفاهيم تناقض ما تقدّمه المدرسة ولا توافق على تدريس أطفالها تلك المفاهيم ومن ضمنها نظرية النشوء والارتقاء والتي كانت الكنيسة تناهضها وبالتالي لم توافق الأسر المتدينة على تلقي أطفالها هذه النظرية من خلال المدرسة بالإضافة إلى أمثلة أخرى على نفس الوتيرة أدت إلى إقبال كثير من المجموعات إلى تأييد حركة التدريس المنزلي التي أطلقها الرواد الذين كانت دعوتهم لأسباب تربوية بحتة وليست مرتبطة بالدين أو القيم أو التوجهات الخاصة.
في بريطانيا فإن التدريس المنزلي ظهر متأثراً بنمو حركته في الولايات المتحدة، حيث بدأت الحركة البريطانية في السبعينات وازدهرت في الثمانينات مستفيدة من الكتابات الأمريكية التي أشرنا إليها، ثم مع ظهور الإنترنت وانتشارها في التسعينات فإن ذلك ساعد بدرجة كبيرة على انتشار الظاهرة حتى أخذت وضعها النظامي ومكانتها الاجتماعية.