اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
ليس ثمَّة شك أن الاختلاف والخصام والشجار سُنَّة كونية، ليس بين أُمَّة وأخرى، أو بين شعب وآخر فحسب، بل حتى بين أفراد الأسرة الواحدة في البيت الواحد. فقد قتل قابيل أخاه هابيل مذ بدء الخليقة؛ غير أنه يجب ألا يفسد الأمر للود قضية كما يقولون. وعلى كل طرفين يختلفان لهذا السبب أو ذاك، أن يناقشا الأمر بعقل مستنير منفتح وفكر متقدم، فيعملا على حل الخلافات بالتي هي أحسن ويبحثا عن نقاط الالتقاء، فيعملان عليها ويعززانها حتى تطغى على المشاكل العالقة بينهما مهما كانت معقدة. أنا لا أقول إنه ينبغي ترحيل المشاكل، بل معالجتها بالعقل والحكمة والمنطق ومراعاة العدالة؛ حتى تسلم الصدور من الحقد والحسد، وتصبح صافية معافاة سليمة، لا يثقلها الغل والغبن فالانتصار من النفس يبقى أسمى غايات أصحاب النفوس الكبيرة، ولنا في ديننا خير هادي، إذ حضَّنا على نصرة الأخ ظالماً أو مظلوماً. أما نصرته ظالماً فبلأخذ على يده ومنعه من ظلم الآخرين. أقول هذا وأنا أستعرض أمامي شريطاً طويلاً مؤسفاً من خلافات عميقة، وعداء مستحكم، وجو مشحون بالشك والريبة والترقب والحذر، بيننا نحن العرب هنا في خليج الخير، وبين إخوتنا وأصدقائنا وجيراننا في إيران.. وها أنا ذا أثبت لهم حسن نيتنا، فأنعتهم بالإخوة والأصدقاء، فالجوار هذا يفرضه التاريخ والجغرافيا ولا أحد يستطيع نكرانه. والحقيقة، أحسب أنه لا داعي للعودة إلى الجذور التاريخية لهذه الخلافات والعداوات والمرارات والحزازات التي عطلت الكل قروناً عديدة عن التنمية والتطوير واللحاق بركب الأمم المتقدمة، التي أرادت لنا جميعاً أن نظل نراوح مكاننا فنكون كالمنبت: لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى؛ إذ بددنا معظم جهودنا في الاتهامات والاتهامات المضادة، وانشغل كل منَّا بوضع العصا في عجلة الطرف الآخر لتعطيل مسيرته نحو التقدم والازدهار. واستثمر الأعداء والدخلاء والمنتفعون وسماسرة السلاح وشركات الأمن لتعميق خلافاتنا وتوظيفها لصالح خدمة بلدانهم وأجندتهم الخاصة.
وفي تقديري أنه قد آن الأوان للعمل المشترك للتغلب على تعقيدات الحياة وإفرازاتها السالبة التي أصبحت تتراكم كل يوم بسبب تصاعد وتيرة الحياة، مستصحبين في ذلك حقائق الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك. فقد أصبح معلوماً بالضرورة أن العالم لم يكن يوماً عالم مثل وقيم وأخلاق، بل عالم تحكمه مصالح وصراعات وموازين قوى لصالح من يسمون أنفسهم (كباراً) ويرون فيما عداهم (أقزاماً) ليس لهم حق في الأمن والاستقرار والرخاء. ولهذا ما يقال اليوم عن الحرية والمساواة والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة الدول والمواثيق الدولية، يبقى مجرد مفاهيم نظرية، لا تعكس الواقع المرير الذي ترزح تحت نيره دول ما يسميه (الكبار) (عالماً ثالثاً) دون استثناء تقريباً.. وإلا أين العراق اليوم من الديمقراطية والحرية التي أرادها له الغرب بقيادة أمريكا لتخليصه من نظام صدام حسين؟ بل أين سوريا؟ أين لبنان؟ أين اليمن الذي ارتمى في أحضان إيران؟ أين ليبيا؟ أين السودان الذي دخل اليوم نفقاً مظلماً على طريق لبنان بعد أن تم تقسيمه إلى سودانين، كأن ذلك لم يكن كافياً لتحويله إلى دولة فاشلة؟ بل قبل هذا كله وذاك أين الصومال الذي تشظى إلى دويلات متناحرة متنافرة متقاتلة ليسقط في جب النسيان بعد أن ابتلعه الحوت؟ وأكثر من هذا: ربَّما تساءلنا قريباً جداً: أين حتى أوكرانيا؟!
فإيران قدرنا مثلما نحن قدرها، وهي أكثر الأمم تأثراً بالعرب على مر التاريخ، وتأثيراً فيهم. فهي كيان أصيل، ودولة كبيرة من حيث المساحة (1.648.000) كيلو متر مربع، يسكنها أكثر من ثمانين مليون نسمة، ولها قدرات اقتصادية وصناعية معتبرة. وليست دولة طارئة جاءت بقرار صادر عمَّا يسمى بـ(الأمم المتحدة). ولهذا ثمَّة بعد تاريخي حضاري متميز بين العرب وإيران، وتداخل إثني عرقي إضافة للتداخل المذهبي. وربَّما لم يحدث مثل هذا القدر الهائل من التداخل بين أي فضاء ثقافي وآخر مثلما حدث بين العرب وإيران.. وأكثر من هذا، ثمَّة حقيقة راسخة يدركها الكل: فلا إيران تستطيع اقتلاعنا نحن العرب هنا في خليج الخير من جوارها، ولا نحن نستطيع اجتثاثها من جوارنا. فكما أكد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي عهدنا القوي بالله الأمين، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، في حديثه الشيِّق الشهير مؤخراً لمجلة أتلانتيك الأمريكية، الذي تناقلته كل وسائل الصحافة والإعلام العالمية بالدهشة نفسها، واهتمت بما اشتمل عليه من مضامين مهمة: (إنهم جيراننا - يقصد الإيرانيين - وسيبقون جيراننا إلى الأبد، ليس بإمكاننا التخلص منهم، وليس بإمكانهم التخلص منَّا؛ لذا فإنه من الأفضل أن نحل الأمور وأن نبحث عن سبل لنتمكن من التعايش... إلخ).
وبالطبع، استلزم هذا الجوار روابط طبيعية عديدة، أهمها الروابط الاقتصادية، الأمنية، الإستراتيجية، السياسية والتجارية؛ فضلاً عن التقارب في نمط الحياة الاجتماعية والثقافية. فلا تكاد تجد اليوم دولة من دول مجلس التعاون الخليجي ليس بينها وبين إيران تعاون في جانب ما أو تداخل، بصرف النظر عن تباين الأمر بين دولة وأخرى، وفق الظروف التي تحدد العلاقة بين هذه الدولة الخليجية أو تلك وبين إيران. يضاف إلى هذا كله حاجتنا المشتركة الآنية لحفظ الأمن في المنطقة، الأمر الذي يهم الجانبين بالقدر نفسه. فنحن نتشارك مع إيران هذا الموقع الإستراتيجي المتميز الذي يعد غاية في الأهمية لأنه يربط بين ثلاث قارات، أي نصف العالم تقريباً: أوروبا، آسيا وإفريقيا. فضلاً عن أن منطقتنا هذه تعد واحدة من أغني مناطق العالم، إن لم تكن الأكثر غنىً على الإطلاق، بالنفط والمعادن والغاز الطبيعي. فالمصلحة في بسط الأمن وتحقيق الاستقرار إذن هي مصلحة مشتركة، وكذلك الخسارة يدفع الكل ثمنها بالقدر نفسه.
ولهذا، أخشى ما تخشاه الصهيونية والاستعمار، ظهور دولة عربية - إسلامية كبيرة، تضم إيران والدول العربية في الخليج، مسلحة بالعقيدة الإسلامية والثروة النفطية الهائلة، والموقع الإستراتيجي المتميز.. متفاهمة، قادرة على إدارة الخلافات بينها وتحويلها إلى فرص لتوطيد العلاقة وتوحيد الجهد لتحقيق مصلحة الكل. ولهذا أيضاً، ظلَّ الاستعمار يبذل قصارى جهده لتعميق الهوة بيننا وبين إيران، بل بين كل دولة وأخرى في المجموعة، بل أكثر من هذا: بين شعب كل دولة، مستفيدين من العزف على وتر خلافاتنا المذهبية بين سنة وشيعة، وخلافاتنا القومية بين عرب وفرس وأكراد وتركمان وغيره. وقد قالها بن غوريون، أول رئيس لأول حكومة صهيونية تم تشكيلها إثر احتلال دولة فلسطين وإعلان دولة الاحتلال.. قالها صراحة مخاطباً جنود الاحتلال: (إن ما تحقق لنا كان أكثر مما توقعناه، غير أنه لم يكن بفضل عبقريتكم أو ذكائكم، بل لأن أعداءنا يعيشون حالة مزرية من التشتت والتفسخ والفساد... إلخ).. أقول: كان هذا عام 1948م، واليوم في عام 2022م، أي بعد ثلاثة أرباع القرن من حديث بن غوريون هذا، ها هي كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي تؤكد بملء الفيه أيضاً: (الحرب ليست في الأنبار، ولا حتى في العراق أو سوريا، الحرب هي على اقتصاديات الدول وإفقارها، وتجويع شعوبها، وتجريدها من قوتها المالية، ومن ثم العسكرية لجعلها غير قادرة على تسديد رواتب موظفيها، ومنهم العسكريين وقوى الأمن، لتظهر قوى مسلحة خارج إطار الدولة، فتنتهك القانون، وتسلب الناس، وتثير الفوضى، وتأخذ الأتاوات). وللأسف الشديد، هذا هو الواقع اليوم في معظم الدول العربية التي أسهمت إيران بقدر وافر في مساعدة الغرب لتحويلها إلى دول فاشلة. ويكفي أن أقول في السودان وحده وصل عدد الحركات المسلحة لأكثر من مئتي حركة، نجحت بتفوق في تعطيل الحياة الدستورية بسبب المحاصصة والتكالب على السلطة والثروة، وأدخلت السودان في متاهة لبنان وما يعيشه من فراغ دستوري، يشكل بيئة خصبة لتعقيد الوضع أكثر وتأزيمه، وربّما ضياع الجمل بما حمل لا سمح الله.
والحقيقة، يقودني هذا إلى حديث مؤسف، بل حقيقة مؤسفة عنَّا نحن المسلمين جميعاً، منسوب لميركل المستشارة الألمانية السابقة، إذ تقول: (للهند والصين أكثر من مائة وخمسين إلهاً، وأكثر من ثمانمائة عقيدة مختلفة - وأضيف: وأكثر من مئتي قومية - ومع هذا يعيش الناس هناك بسلام؛ بينما لدى المسلمين إله واحد، ونبي واحد، وكتاب واحد؛ غير أن شوارعهم ملطخة باللون الأحمر من كثرة دمائهم.. القاتل يصيح: الله أكبر. والمقتول يصيح الله: الله أكبر). بل الغرب نفسه يعيش مثل هذا الواقع أيضاً، ففي أوروبا وحدها نحو مائة إثنية، ولديهم هذا الاختلاف المذهبي بين أرثودكس وبرتستانت. ويقال الشيء نفسه عن أمريكا التي تتكون من اتحاد خمسين ولاية.. غير أن هذا لم يأخذ حيزاً يذكر لتعطيل عجلة انطلاقهم في مسيرة البناء والتعمير وتحقيق الرفاهية لشعوبهم على حساب الشعوب الأخرى التي أفقرها الغرب طوعاً أو كرهاً. ولنأخذ الحكمة من أفواه (الأوروبيين) أنفسهم، الذين ألغوا الحدود بين بعضهم البعض، بعدما قدموا من أجلها أكثر من ستين مليون ضحية. ويمكننا قول هذا أيضاً عن مشكلة شط العرب التي أوقدت حرباً شعواء بين إيران والعراق دامت ثماني سنوات داميات راح ضحيتها أكثر من مليوني قتيل، هذا غير الجرحى والمفقودين وما حدث من خسائر مادية للطرفين، ثم ليعود الوضع بعد كل هذا إلى ما كان عليه الحال قبل نشوب الحرب.. تثبيت اتفاقية الجزائر بشأن موضوع شط العرب.
بل أكثر من هذا وأعظم: للإيرانيين حضور متميز في حضارة العربية - الإسلام، فبعض علماء المسلمين من أصول إيرانية، ومنهم من أصبح إماماً في علم الكلام والجدل والعقيدة كواصل بن عطاء وعبيدة بن المثنى، بل منهم أعلم علماء النحو والصرف كسيبويه والكسائي، وأصحاب الصحاح الستة كلهم من أصول إيرانية، بل حتى اثنين من أئمة السُّنَة الأربعة هما من أصول إيرانية، أحمد بن حنبل والنعمان بن المنذر. يضاف إلى هذا أن الثعالبي النيسابوري العالم الإيراني الشهير، قد أكد في كتابه (سر الأرب في مجاري كلام العرب) أن الإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة.
لكن بالمقابل، علينا أن نحترم شؤون بعضنا البعض الداخلية؛ فلا يكره أحدنا الآخر، مستصحبين في هذا قول الحق عزَّ و جلَّ في الآية (29) من سورة الكهف: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...} الآية. فالله سبحانه وتعالى، الذي خلق الإنسان قد منحه هذا الحق؛ فليس لبشر أيَّاً كان أن يكره الآخرين على ما يراه.
فلنعمل إذن ومعًا على تعزيز نقاط الالتقاء التي تفرضها وحدة المصير المشتركة لتقوية الروابط الاقتصادية والأمنية والإستراتيجية، وزيادة التبادل التجاري، وحتى تفعيل النشاط السياحي، لضمان أمن منطقتنا وراحة شعوبنا واستقرارهم؛ ولنسحب البساط من تحت أقدام كل من يسترزق بتأجيج نيران الفتنة بيننا ولنوفر هذا العبء الهائل الذي ننفقه على ضفتي الخليج بسبب هذا العداء المستحكم منذ قرون.
وما دمت أدعو لطي صفحة الماضي، ومواجهة الواقع بكل إفرازاته، حتى نستطيع تخطيه لمستقبل مشرق للجميع، لا بد لي من القول بكل صراحة وصدق، وتجرد من الأهواء: على إيران أن تخطو الخطوة الأولى، فتتخلى عن هذه العصا الغليظة التي ترفعها في وجه دول الخليج، فتتنازل طوعاً عن الجزر الإماراتية التي تحتلها في خطوة جريئة لإثبات حسن النية. أو على الأقل، تقبل بما قبلت به دول الخليج، فنحيل الأمر نحن جميعاً إلى التحكيم الدولي. وتكف إيران عن التحريض المذهبي، وتتخلى عن أحلام تصدير الثورة، وتتوقف عن نشر فكرها في الدول العربية، وأن توقف هذا الدعم السخي الذي تقدمه لحلفائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن الذي وصل دعمهم فيها لعملائها الحوثيين إلى صواريخ بالستية متطورة تهدد أمن المملكة واستقرارها بعد فشل منظومة الطائرات المسيرة في النيل من بلادنا.
أجل، على إيران أن تكف عن هذا العبث كله، إن هي أرادت تعايشاً سلمياً يضمن الأمن والاستقرار للجميع، ويحقق رفاهية شعوب المنطقة، ويدعم السلم الاجتماعي في العالم كله. ولتتخلى عن عصا السلاح النووي، فلتترك لشعوب المنطقة حرية التعايش مع بعضها البعض داخل دولها. أما إيران، فلها كامل الحرية في معتقداتها وما تختاره من أسلوب حياة لشعبها ونظام حكم؛ فتلك شؤون داخلية، نحترمها بصرف النظر عن اتفاقنا معها أو اختلافنا؛ غير أننا في الوقت نفسه نطالب إيران بالمثل.
وفي تقديري المتواضع، نحن وإيران أمام خيارين، لا ثالث لهما: التنافس المحموم واحتدام الصراع لدفاع كل طرف عن مصالحه ومكتسباته ضد الطرف الآخر.. أو تعزيز الثقة والتعاون بعقل متفتح من أجل تحقيق مصلحة الجميع والدفع بالجهود قدماً نحو الأمام من أجل بسط الأمن وترسيخ الاستقرار وتحقيق التنمية والتعمير وتحقيق رفاهية الجميع.. وبين هذا وذاك يتقرر مصير الدول وأنظمة الحكم الراشدة. وأختم مقالي هذا بالدعوة التي وجهها الأمير تركي الفيصل للإخوة في إيران: (هلموا نتفق لتشكيل هلال خصيب نتفق عليه، لا هلالاً نختلف عليه).. فهل من مجيب؟ أرجو ذلك.