د. محمد بن يحيى الفال
الأمثال هي حصيلة تجارب الشعوب والمجتمعات يلخصون فيها تجاربهم ومشاهداتهم حول مختلف القضايا التي واجهتهم وذلك في جمل قصيرة ولكنها مليئة بالمعاني والعبر, ومن هذا المنطلق هناك مثل من الثقافة الأمريكية يصف بامتياز وبلاغة الحالة التي تمر بها العلاقات السعودية - الأمريكية منذ وصول إدارة الرئيس جو بايدن لسدة الحكم في الولايات المتحدة، المثل هو «Don›t beat around the bush»، ويعني المثل أهمية وضرورة التوقف عن تجاهل الموضوعات والقضايا المهمة بمحاولة تغطيتها بنقاشات فرعية يضيع خلالها التطرق للقضايا الأكثر أهمية وإلحاحاً، ولعل المقولة في اللغة العربية «كلمة حق أريد بها باطل» هي الأقرب للمثل الأمريكي أعلاه وإن كانت المقولة العربية أكثر بلاغة بلا نقاش خصوصاً وأن قائلها هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو من هو في رجاحة الرأي وسدداه والشجاعة وذلك عندما رفض الخوارج التحكيم في النزاع بينه وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعد معركة صفين وذلك بقولهم «لا حكم إلا الله»، فالآيه القرآنية على حق وهم على باطل.
تطبيق المثل الأمريكي عملياً على ما تمر به العلاقات السعودية - الأمريكية في عهد الرئيس بايدن نراه واضحاً جلياً في تطور هذه العلاقات شكلياً ومظهرياً وعلى السطح وذلك فيما يُشاهد ويُعلن عنها بين الفينة والأخرى خصوصاً من الجانب الأمريكي حول التعاون الوثيق بين البلدين الصديقين الحليفين في مجال التعاون والمناورات العسكرية والتبادل التجاري.
ومع قول ذلك فلم يعد سراً بأن هذا التعاون الإيجابي على السطح يخفي تحته الكثير من الخلافات والتصعيدات.
قائمة القضايا الأساسية والمحورية التي آن الآوان لوضع نهاية لها وتعطل توثيق العلاقات التاريخية بين البلدين الصديقين والتي تأسست من قبل زعيمين تاريخيين الملك عبدالعزيز رحمه الله والرئيس فرانكلين روزفلت في الأربعينات من القرن المنصرم بعد اجتماعهما على ظهر البارجة البحرية الأمريكية «كوينسي»، القضايا متداخلة مع بعضها بعضا ومنها ما هو السياسي والعسكري والاقتصادي وحتى البيئي.
فيما يخص المحور السياسي فهو متعدد الجوانب منها ما هو مرتبط بالشأن الداخلي الأمريكي والآخر بالوضع في المنطقة، ويتبادر في هذا المجال ما صرح به الأمير بندر بن سلطان بأن المرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية غالباً ما يتعرضون للإساءة للمملكة خلال الحملات الانتخابية ولما تمثله من أهمية من أجل إرضاء بعض تجمعاتهم الانتخابية بيد أنهم يصححون ما صدر منهم وهم أصلا غير مقتنعين به بادئ القول وذلك حال وصولهم لسدة الحكم وهو الأمر الذي لم تفعله الإدارة الأمريكية الجديدة ولعل السبب من وراء ذلك لو اخترنا حسن النية فلعل مرد ذلك انشغالها بما سببته الجائحة الكونية من تداعيات، أو إذا اخترنا خلاف ذلك فربما قررت الإدارة الأمريكية الحالية المضي قدماً بهذه الإساءات واستخدامها كورقة ضغط للتأثير في قرارات المملكة في مجال إمدادات الطاقة والتزاماتها الدولية حولها. ولعل ما يلفت النظر هنا هو ما يظهر على السطح وبشكل متسارع من استقطاب واشنطن لمن يطلقون على أنفسهم معارضة سعودية في الخارج أو مسؤولين سابقين ثبتت اختلاساتهم وتحريضهم لرفع قضايا ضد المملكة وقادتها وهو أمر وكما هو الحال في كل ما يتعلق بسيادتها تضعه المملكة كخط أحمر لا تقبل النقاش فيه بأي شكل من الأشكال وسيؤثر قطعاً في مستقبل نمو العلاقات وتوطيدها. الملف النووي الإيراني وسعي الإدارة الأمريكية لحله حتى ولو على حساب الأطراف المتضررة من تبعاته كالمملكة هو أيضاً يحتاج لنقاش معمق وسريع وحازم بين الحليفين وأهمية ربط برنامج إيراني للصواريخ الباليستية وجعله أحد أهم بنود الاتفاق المقبل مع ملالي طهران لما تمثله هذه الصواريخ من تهديد لدول المنطقة كافة وهو أمر يصدح به ملالي طهران ليل نهار ونرى تبعاته في عدد من العواصم العربية المغلوبة على أمرها. الحرب في اليمن هي مثال صارخ للتدخلات ملالي طهران في شؤون دول المنطقة وهي حرب بالوكالة قامت بها عصابة خارجة على القانون خرجت على كل محاولات الحل السلمي في اليمن قبل الحرب والذي تمثل في المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية ومخرجات الحوار الوطني اليمني وكل القرارات الدولية بعد الحرب وأهمها قرار مجلس الأمن رقم 2216 في 14 أبريل 2015 الذي فرض عقوبات على رؤساء العصابة الحوثية ومنع تزويدهم بالسلاح من كافة الأطراف وعلى رأسهم عرابوهم من ملالي طهران وإنهاء تجنيد أطفال اليمن الذين زج بهم في آتون الحرب والتي قام وما يزالركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية بإعادة تأهيل الكثير منهم. هذا المركز الإغاثي الذي أطلقته المملكة للتخفيف على أهل اليمن الشقيق من ويلات الحرب التي زجتهم فيها عصابة الحوثي، مركز يعد بحق سابقة تاريخية لتجنيب المدنيين ويلات الحرب وذلك إيمانا من المملكة وقيادتها بأن عصابة الحوثي المسيرة من قبل ملالي طهران لا تضع في أي من أجندتها حقوق المدنيين وخصوصاً الأطفال الذين خذلهم العالم برغم القرارات الدولية ووقفت المملكة وما تزال في تقديم كافة أنواع المعونات لهم ولكافة اليمنيين وبسخاء.
عصابة الحوثي التي صنفتها الإدارة الأمريكية السابقة كجماعة إرهابية ثم رفعت عنها الإدارة الحالية هذا التصنيف فجاء القرار الأممي رقم 2624 الصادر في 24 فبراير المنصرم لينصف أهل اليمن ويصنفها جماعة إرهابية وحظر السلاح عنها. فشل العالم وفي تقاعس غير مسبوق في درء جرائم عصابة الحوثي بحق أهل اليمن لأكثر من سبع سنوات والذي رأينا عكسه تماماً في تباكي الغرب برمته لدرء التدخل الروسي في أوكرانيا، ونقل الإعلام الغربي وعلى مدار الساعة للوضع الإنساني هناك.
عسكريا، ما زال التعاون العسكري قائما بين البلدين في مناورات دورية مشتركة رغم الكثير من التشككات والتغطيات الإعلامية التي صاحبت سحب الولايات المتحدة لبطاريات باتريوت من المملكة في وقت تصاعدت فيه هجمات الطائرات المسيرة والتي استطاعت قوات الدفاع الجوي السعودية التعامل معها وتحييد معظمها بجدارة واحترافية كذلك فما زال هناك عدد من المشرعين الأمريكيين في الكونجرس الأمريكي بغرفتيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب يعارضون تزويد المملكة بالأسلحة بحجج واهية منها حرب اليمن التي سعت المملكة وقبل نشوبها بمنع انطلاقها وفشل العالم في وقفها رغم كل القرارات الأممية.
اقتصاديًا، لعله ومن نافلة القول إنه ليس باستطاعة أي مركز بحثي مهما علا شأنه التقليل من جهود المملكة ولعقود من الزمن في الدفع باستقرار أسواق النفط العالمية وخسرت في جهودها هذه المليارات من الدولارات وذلك إيمانا منها بدورها الإنساني والمحوري بكونها أكبر مصدر للبترول عصب الحياة الاقتصادية للعالم أجمع. كذلك ربطت سلة عملتها الوطنية بالدولار الأمريكي وجعلته عملة تعاملاتها الدولية في بيع نفطها للعالم وتخلت عن كل الخيارات التي عرضت عليها والمتاحة لها إيمانا منها بالعمق التاريخي في علاقاتها مع الولايات المتحدة وهو الأمر الذي وجد كل التقدير من كافة الإدارات الأمريكية السابقة سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية وبفتور وعدم مبالاة غير مسبوق من الإدارة الحالية. كذلك فإنه من غير المنطقي الطلب من المملكة التخلي عن تعهداتها الدولية بخصوص سوق النفط ومن ذلك اتفاق أوبك بلس الذي وقع بين 13 دولة من دول أوبك ترأسهم المملكة و10 دول من خارج منظمة أوبك ترأسهم روسيا وذلك لخفض الإنتاج لرفع أسعار برميل النفط لسعر عادل يرضي المنتجين والمستهلكين.
بيئياً، فلعل المفارقة التي تربط القصور في العلاقات السعودية - الأمريكية بتعاون جدي لحلفاء حقيقيين نراه أيضاً حتى في الجانب البيئي والذي تتبناه الإدارة الأمريكية الحالية وتضعه على قائمة اهتماماتها، فهذه هي الناقلة صافر التي تحتوي على أكثر من مليون برميل من النفط وتقبع في وضع خطر قابل لتسرب النفط في رأس عيسى شمال ميناء الحديدة منذ سبع سنوات مهددة البحر الأحمر بكارثة بيئة كبرى في ملف فشلت الأمم المتحدة في وضع حد له بتعنت عصابة الحوثي.
قد لا يخفي على الجانب الأمريكي بأن الأزمة الروسية - الأوكرانية أفرزت واقعا سياسيا جديدا يمكن وصفه بالنسخة المعدلة من الحرب الباردة بنكهة المصالح تضع الدول فيها مصالحها الوطنية فوق كافة الاعتبارات الأخرى بعد أن أتضح لها بأن المصالح الغربية تقسم حلفاءها ضمن عدد من التقسيمات والتصنيفات لم تستن حتى الأثني منها وترفض هذه الدول كذلك وبنفس المقياس الذي أفرزته الأزمة أي تدخل بأي شكل من الأشكال في شئونها الداخلية.