د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** وحده منبرُ البحتريِّ الذي تأولَ فيه سعيَ مشتاقٍ إلى مشوقه، وافترضَ ساكنًا يتجهُ إلى متحرك، مقتنعًا -بهدف المدح - أنْ لو حدث ذلك لمشى المنبرُ إلى «المتوكل»، ولا غرابةَ؛ فالمدَّاحون عابرو سبيلٍ ينتظرون إجازةً وجائزة:
أُخفي هوىً لكِ في الضلوعِ وأُظهرُ
وأُلامُ في كمدٍ عليكِ وأُعذرُ
** ذاك مطلع النص الذي زعم فيه:
فلوَ انَّ مشتاقًا تكلفَ فوقَ ما
في وسعه لسعى إليكَ المنبرُ
وإذ اجتمع الامتناعان فقد اكتفى الساعي والمسعيُّ إليه بهذه المبالغةِ المستحيلةِ في زمنه، الواقعيةِ في زمننا؛ فقد صار المنبرُ رهنَ أيماننا وشمائلنا وأفواهنا ووجوهنا، ولو أعادها الشاعرُ اليوم لوبّخه الممدوح؛ فما زاد على أن ماثله بملايين لديهم منابرُ رهن أناملهم، ولاكتفينا - مجاملةً له - باقتراح أن يبحثَ عن مبالغاتٍ لم يأتِ بمثلها الأوائل، وعسى أن يقلعَ عنها الأواخر، وإذا كان المجازُ مبررًا في زمنٍ فستعشى المبرراتُ في أزمنة.
** خلال فترة الحظر الكلي بسبب «وباء كوفيد 19» ألقى صاحبكم محاضرةً في «نادي الأحساء الأدبي «عبر تقنية» البث المباشر»، ونُشر حينها أن الحضور كان «سبعة آلاف» وفق تصريحٍ منشورٍ لرئيس النادي، وقبل أيامٍ ألقى محاضرةً أخرى في «مركز ابن صالح الثقافي» بعنيزة وحضرها - وفق التوثيق الرسمي - «ألفٌ ومئةٌ وخمسةٌ وسبعون»، أي أن البعدَ صار وسيطَ القرب، ولو قُدّمت المحاضرتان بالصورة المعتادة لما ارتادهما عُشْرُ العدد إذا تفاءلنا، فوق ما توفر من تكلفةِ السفر والإقامةِ ونحوها، وفي ملتقى «قراءة النص الثامن عشر بنادي جدة» قدَّم توصيةً بإقامته «افتراضيًا» استهدافًا لحضورٍ أكبر، وتوفيرًا لنفقاتٍ أكثر، ولا يعلمُ إن كانت قد اعتمدت ضمن التوصيات أم لا؛ إذ سافر قبل عقد الجلسة الختامية.
** اليوم تعيشُ الأنديةُ الأدبيةُ حالةً مؤرقةً؛ فمرجعيتُها لم تتبينْ، ودخلُها لا يُضمن، والسامرون ينفضُّون عنها، ومسؤولوها ينتظرون تثبيتَها أو تغييرَ هيكلتها وتحديدَ مواردها َودعم استمرارها واستقرارها، ويتمنى عارفو تأريخها الممتدِ عقدَ منتدىً حولها كي لا يُرمسَ نصفُ قرنٍ مليءٌ بالإنجاز والقصور، والتميز والتحيز، والتحدي والإخفاق، وإذا تقررَ موتُها فما هي بدائلها، وكنا في يومٍ نتطلع إلى تطويرها واستبدال مراكزَ ثقافيةٍ بها فبتنا اليوم نخشى وأدها بصمت دون مدفنٍ يليق بثرائها، ومن غير بديلٍ يفي لتراثها.
** لم ينتسب صاحبكم لأي نادٍ أدبيٍ، وليست لديه عضويةٌ فيها، ولم يطبعْ كتابًا لديها، ودُعيَ إلى أنشطةٍ محدودةٍ في أقلِّها، وهو ما يجعله حرًا في موقفه منها، متحررًا من شبهة الانتماءِ إلى مصلحةٍ لديها، وإنما يُحزنه أن يؤولَ أمرُها إلى هامشِ يتسولُ الدعمَ الماليّ، ويتوسلُ الحضورَ النوعيَّ، ويرتقبُ غدَها المحتوم.
** نتطلعُ إلى أن تنقسمَ هذه الأنديةُ كخليةٍ حيويةٍ لتُصبحَ مراكز إشعاعٍ تنويريٍ على مساحة الوطن كي يجد فيها الطفلُ والشابُ والشيخُ والمرأةُ ما يضيءُ أذهانهم وينفعُ أوقاتهم.
** الأنديةُ مشروعُ مشروعات.