مشعل الحارثي
استأثرت شخصية الملك عبدالعزيز رحمه الله بالاهتمام الكبير من الأديب والمفكر العربي الراحل الأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله خلال زيارته الوحيدة للمملكة العربية السعودية وتحديداً لمنطقة الحجاز عام 1365هـ والتي قدم إليها ضمن بعثة الشرف المصرية القادمة لمرافقة جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله في زيارته الرسمية لمصر، وقد سجل العقاد خلال زيارته هذه العديد من المشاهدات والانطباعات فيما كتبه من مقالات بعد عودته لمصر في كل من مجلة الرسالة والكتلة والمصور والتي جمعها ابن أخيه الأديب الأستاذ عامر أحمد العقاد رحمه الله في كتاب بعنوان (مع عاهل الجزيرة العربية).
وتناول في تلك المقالات ما رآه وسمعه عن جلالته الملك عبدالعزيز وسيرته وبطولاته وكيفية تحويل المملكة من صحراء قاحلة إلى بلد آمن مطمئن مستقر في القرى والمدن، وتحدث عن مظهر جلالته وحياته الشخصية وصفاته وصراحته ودهائه وفطنته وشجاعته وقوة نفسه وكرمه وجوده وعدله ورحمته وإنسانياته وأبوته واهتمامه بأبنائه الأمراء وحسن تربيتهم وطرق تأديبهم وإعدادهم وتدريبهم على إدارة شئون الدولة وعن العديد من اهتماماته وهواياته الشخصية كحبه للرياضة والصيد ورقصة الحرب (العرضة النجدية).
كما تحدث عن نظام الحكم في المملكة، وديموقراطية جلالته، ومستشاريه، واهتمامه بشئون شعبه، وتطبيق مبدأ الشورى، وعرض لكيفية عمل مجلس الشورى السعودي وآلياته، واهتمام جلالته بقضية توحيد الأمة العربية والإسلامية وقيام الجامعة العربية.
وروى عدداً من القصص عن جلالته سواء في لقائه به بقصره بمكة المكرمة أو في الرحلة البحرية وهو في طريقه إلى مصر والتقاء جلالته بأعضاء البعثة على متن يخت (المحروسة) عدة مرات، ومنها كيفية معالجة جلالته للمتشددين الذين أنكروا المخترعات الحديثة كالهاتف والسيارة والراديو واللاسلكي لأنهم كانوا يظنون أن بها شياطين ودهائه في كيفية إقناع تلك الفئة بضرورة التطور والاستفادة من معطيات العلم الحديثة وتسخيرها لخدمة الحياة.
يقول العقاد عن الملك عبدالعزيز: (إن ابن سعود من أولئك الزعماء الذين يراهم المتفرسون المتوسمون فلا يحارون في أسباب زعامتهم وعظمتهم ولا يجدون أنفسهم مضطرين أن يسألوا: لماذا كان هؤلاء زعماء؟ لأن الإيمان باستحقاق هؤلاء لمنزلة الزعامة في أقوامهم أسهل كثيراً من الشك في ذلك الاستحقاق)(1).
وبالعودة لمقياس العقاد في تقديره لعظماء التاريخ واستحقاقهم لهذا التقدير نجد أنه يلخصه في أن جوانب العظمة الفردية في بني الإنسان خليقة بالتجلة والتقدير، وأننا مطالبون بأن نرفع صورهم إلى مكان التجلة لأننا في زمان يوجب هذا، إذ إن الأسباب التي تغض من وقار العظمة لم تزل تتكاثر عفواً في بعض الأحيان وقصداً في أحيان أخرى، حتى أصبحت العظمة في حاجة إلى ما يسمى - كما يقول العقاد (برد الاعتبار) في لغة القانون، لأن الإنسانية لا تعرف حقاً من الحقوق إن لم تعرف حق عظمائها، وإن الإنسانية كلها ليست بشيء إن كانت العظمة في قديمها أو حديثها ليست بشيء.
ومن تقدير وتأثير واستحقاق هذه العظمة لجلالة الملك عبدالعزيز لدى عباس العقاد أنه ما أخذ اليخت الملكي (المحروسة) تشق عباب البحر وتغادر حدود جدة محفوفة برعاية الله وحفظه، بعد أن تزينت بأبهج حلة من الزينة ابتهاجاً بتشريف عاهل العرب الكبير على متنها، وما أن فطن المرافقون من أعضاء البعثة بأن ذلك اليوم يصادف ذكرى عيد جلوس جلالة الملك عبدالعزيز حتى هبوا للاحتفال بهذه المناسبة السعيدة بإقامة برنامج حافل شمل مجموعة من العروض العسكرية، وإلقاء عدد من كلمات التهاني لجلالته وعدد من القصائد الشعرية، وكان للأستاذ عباس محمود العقاد دوره ومشاركته القيمة انطلاقاً مما تكون في نفسه من أثر وإعجاب كبير بشخصية الملك عبدالعزيز التي صاغها في قصيدته التي عدها البعض من عيون الشعر ويقول في مطلعها:
أسد العرين يخوض غيل الماء
يا بحر راضك قاهر الصحراء
حياه باديها وحاضرها معاً
فاغنم تحية يومه الوضاء
يوم من البشرى يردد ذكره
ركب السفين وجيرة البيداء
عش يا طويل العمر عيش معمر
تحيا به أمم من الأحياء
ما خص طالعك الرياض بيمنه
بل فاض من عمم على الأرجاء
إلى آخر تلك القصيدة التي تناولها الكثير من الأدباء والكتاب السعوديين وغيرهم في مقالاتهم ودراساتهم الأدبية والتاريخية بمزيد من الدرس والإشادة على هذه الرائعة من المفكر العربي الكبير الذي عرف عنه أنه لا يجامل ولا يميل إلى المدح وأن من امتدحهم في حياته وكتاباته وشعره عدد قليل جداً من العظماء ممن استحقوا المدح والإشادة لما قدموه من منجزات لخير شعوبهم ومن عطاء لافت للنظر وقبل ذلك من خدمة للأمة والإنسانية.
إلا أن تأثر العقاد بشخصية الملك عبدالعزيز رحمه الله لم يقف عند تلك القصيدة فقط وما كتبه من مقالات بعد انتهاء برنامج تلك الزيارة كما يظن البعض، فقد ألقى قصيدة ترحيبية أخرى في الملكين الملك عبدالعزيز والملك فاروق خلال تلك الزيارة في الاحتفال الذي أقامته وزارة الخارجية المصرية وبحضور رئيس الوزراء المصري الأسبق مصطفى النحاس وفيها يقول:
داعي العروبة فاز بالإصغاء
وله استجاب الله خير دعاء
ملكا العروبة في صعيد واحد
بشرى لامتها بكل رجاء
يا من يرى القمرين يلتقيان في
فلك ويزدادان حسن ضياء
جمع من اللآلاء خص بفضله
جمع العروبة مبدع الآلاء
لولا مشيئته وسابق وحيه
لعلت على التقدير والأنحاء
يا قدوة الأملاك في التقوى وفي الشـ
ـورى وفي التعمير والإنشاء
إن الذي وكل الشعوب إليكما
ولاكما فيها عروش ولاء
لو لم تسيرها الأمور إليكما
سارت بمحض مودة ووفاء
آخاكما الرحم الذي أضفى على
شعبيكما في الله برد إخاء
إن الكنانة والحجاز كليهما
شطان من بحر قريب لقاء
شطان في دنيا العقائد واللغى
لا في البقاع فحسب والأجواء
متجاورين على المدى متعاهديـ
ـن على الهدى في عزة وصفاء
ما جيرة الحرمين حين نعدهم
في جيرة الهرمين بالغرباء(2)
وهذه القصيدة لم تحظ بالاهتمام الكافي وتسليط الأضواء عليها من جمهرة الأدباء والنقاد بمثل ما حظيت به قصيدة العقاد الأولى وإن كانت الثانية تحمل في مضامينها الطابع السياسي ودواعي ومقتضى المناسبة فذلك ليس بمستغرب على قائلها فهو إلى جانب مكانته الأدبية والفكرية هو أيضاً أحد رجال السياسة المصرية، وقد تضمنت قصيدته دفقا وجدانيا صادقا ومعبرا عن مدى عمق أواصر المحبة والصداقة التي تجمع بين شعبي المملكة العربية السعودية والشعب المصري، والتجلة للملكين العظيمين الملك عبدالعزيز والملك فاروق وما لهما من مكانة كبيرة في العالم العربي، وما كان يعلق بهما آنذاك من آمال عريضة في جمع شمل الأمة العربية تحت مظلة جامعة الدول العربية وهو ما تحقق بالفعل على يدي هذين الملكين بعد أن سبقتها مشاورات الوحدة العربية والتقاء الملك عبدالعزيز بالملك فاروق عند جبل رضوى بمدينة ينبع السعودية.
ولعل أبرز ملمح لتأثر العقاد النفسي وانبهاره بشخصية جلالة الملك عبدالعزيز عندما التقاه لأول مرة يبدو واضحاً وجلياً في أنه جعل قصيدته الثانية وكأنها إحالة أو امتداد لقصيدته الأولى فجاءت بنفس الوزن والقافية وتحمل الكثير من المعاني والدلالات على ما يتمتع به الملك عبدالعزيز من صفات وسجايا ومن تأكيد على أهم رابطة جمعت بين البلدين الشقيقين مصر والسعودية وهي رابطة الدين الإسلامي الحنيف واللغة التي تسمو على كل الروابط الأخرى.
** **
(1) مع عاهل الجزيرة العربية - عامر العقاد.
(2) الرحلة الملكية السعودية إلى مصر - عبدالحميد مشخص - دارة الملك عبدالعزيز.