مشعل الحارثي:
كثيراً ما نردد مقولة الكتاب من عنوانه، وفي هذه الجملة التي يلقيها البعض منا دون التفكير في معناها ومدلولها، بينما هي تحمل اعترافاً ضمنياً بأهمية العنوان ومكانته الجوهرية فيما ينبئ عنه النص، إضافة إلى أن العنوان يحمل القارئ على فك شفرته ويدفع به للتسلل للنص ومعرفة مكنونه ومكوناته، وتلك كانت حالتي عندما وقعت عيناي على عنوان الكتاب الجديد لأخينا وصديقنا الأديب والناقد الأستاذ حسين محمد بافقيه، والذي يحمل في عنوانه الرئيسي والعريض (ألف لا شيء عليها) وفي عنوانه الأصغر (تكوين أدباء الرعيل) والصادر عن النادي الأدبي بالطائف بعد أن تفضل مؤلفه، فأهداني نسخة منه، فأيقنت لحظتها، ومن مطالعتي لهذا العنوان أن سرادق الكتاب يقوم على عامودين أساسين أحدهما يلحق بالتعليم، والآخر ذي صلة كبيرة بأدباء الرعيل الأول وفي فلكهما ينتظم متن الكتاب ومحتواه وعناصره.
وفي هذا الكتاب يحلق بنا المؤلف من خلال (270) صفحة من القطع المتوسط، ويمخر بنا عباب الزمن القديم لنعيش معه إرهاصات النهضة الثقافية والرابطة الأزلية بينها وبين التعليم كأحد مرتكزاتها الأساسية، واستعراضه لبدايات التعليم في مدن الحجاز مكة المكرمة وجدة والطائف والمدينة المنورة والقائمين عليه وأحواله وصوره، انطلاقاً من زمن الكتاتيب وما كان يصاحبها من بدائية ومشاق للمعلمين والمتعلمين، وما يستتبعها من احتفالات لمن أتقنوا فك الحرف، وأتقن النصبة والرفعة والخفضة، وأبجد هوز في مصطلحاتها التعليمية القديمة، وكذا التعليم في المساجد والتعلم في دكاكين الخطاطين التي كانت تعتبر -آنذاك- وسيلة مهمة لتجويد وتحسين الخط، كما تحدث عن بدايات التعليم المدرسي الأهلي المنظم في مدن الحجاز، وفي مقدمتها مدرسة الفلاح بجدة ومكة وغيرها، وانعكاس أثر هذا النمط من التعليم البسيط والبدائي في تكوين ثقافة وأدب أدباء الرعيل الأول الذين اختارهم من خلال كتب السير الذاتية والتراجم الموجزة، وما أدلوا به من أحاديث صحفية، وما ورد لهم من ترجمات في الكتب المتزامنة مع ميلاد الأدب الحديث في الحجاز، ككتاب أدب الحجاز، وكتاب المعرض، وكتاب وحي الصحراء، أمثال الأساتذة أحمد السباعي، أحمد إبراهيم الغزاوي، محمد حسين زيدان، عزيز ضياء، محمد حسن عواد، محمد سرور الصبان، عبدالقدوس الأنصاري، محمد عمر عرب، حسين سرحان، إبراهيم داود فطاني وغيرهم من العلماء والمعلمين الأدباء، والذين تناول بحثه عنهم خلال الفترة الزمنية ما بين عامي 1344- 1355هـ.
ويكشف لنا المؤلف ومن خلال كتابه الممتع هذا والمتخم بالمعلومات والهوامش الثرية، بعض المسكوت عنه والموثق بالحقائق والوقائع والحجج التي تصحح خطأ تاريخي، ينصف فيه الأديب الشاعر محمد عمر عرب أحد أدباء الرعيل الأول، ويثبت له الفضل فيما قدمه من جهود تعليمية كمعلم لجيله ويمنحه الزعامة الأدبية كرائد للأدب الحديث في الحجاز، بخلاف ما هو شائع ومتوارث من كون هذه الزعامة سجلت باسم معالي وزير المالية الأسبق محمد سرور الصبان الذي قلده الزعامة الشخصية والسياسية والاعتراف بريادته وسبقه في اهتمامه بأدب وأدباء الحجاز، والتعريف بهم وجهوده الكبيرة في نشر الكتاب.
من جهة أخرى ناقش المؤلف قضية تحرير مصطلح (جيل الرواد) والذي لا يحمل المدلول الحقيقي لما يرمي إليه حسب ما أثبتته القواميس اللغوية، ويرى تحويله لمصلح (أدباء الرعيل)، كونه الأقرب لتشخيص تلك الفترة ورموزها من الأدباء.
والكتاب يمثل إطلالة جديدة وغير مسبوقة في الحديث عن ماضي التعليم بالمملكة العربية السعودية، وتحديداً منطقة الحجاز، ويكسر الرتابة المعتادة في تناول مثل هذه الموضوعات وشكلاً ومحتوى، وإقدامه على تجاوز قوالب كتابة الكتب، وإقدامه على إلغاء الأبواب والفصول، والاستعاضة عنها بعدد من العناوين الجاذبة والصور المعبرة، فضلاً عن أسلوب الكاتب الممتع، ولا أشك مطلقاً في أن القارئ سيتملكه الكثير من الشوق والمتعة وهو يتنقل بين صفحاته، ويجد نفسه كأنه يتجول في حديقة غناء ثرية بثمار الفكر والمعرفة، وقصص البدايات التعليمية في حياة أدباء الرعيل وقادة الإصلاح والتنوير.