الجزيرة - كتب:
تحط رحال هذه الزاوية في هذا العدد على كتاب من أهم الكتب المؤلفة في الإدارة وأكثرها دقة، وهو كتاب: حياة في الإدارة»، للدكتور: غازي بن عبدالرحمن القصيبي رحمه الله، هذا الكتاب الذي صدر قبل قرابة الربع قرن، ليكشف لنا عن خبايا الإدارة في دهاليز الوزارت في المملكة، ويمكن أن نصنف هذا الكتاب من ضمن أدب السيرة الذاتية، وهو الذي توجه القصيبي بإهداء إلى: «يارا، وسهيل، وفارس، ونجاد، وأقرانهم في المملكة وعبر الوطن العربي».
ومما يدعم تصنيف الكتاب ضمن أدب السيرة ما قاله المرحوم في ثناياه: «كنت أحضر للدكتوراه في لندن في صيف 1968م (1386هـ) عندما جاء سيدي الوالد رحمه الله إلى العاصمة البريطانية للراحة والاستجمام وإجراء بعض الفحوص الطبية. كان، وقتها، في السادسة والثمانين وكان مع ذلك ممتعاً بكل قواه النفسية والعقلية والكثير من قواه البدنية. طلبت منه أن نشترك في كتابة مذكراته - وقد عاصر أحداثاً كثيرة تستحق أن تسجل - إلا أنه رفض. حاولت تبسيط الأمور فعرضت عليه أن يتكلم على سجيته وأن أسجل ما يقوله ثم أقوم بعد ذلك بصياغته من جديد، إلا أنه أصر على الرفض. كانت وجهة نظره أنه لا يستطيع أن يفشي الأسرار التي أوئتمن عليها وأن المذكرات إذا خلت من هذه الأسرار فلن تكون سوى سرد لأشياء يعرفها الناس جميعاً، ولا مبرر لكتابة مؤلف جديد عنها. وجهة نظر أبي تستحق الاحترام إلا أنها، ككل وجهة نظر، تقبل المناقشة. من ناحية، للسر، ككل شيء في هذه الحياة، عمر محدد بنهايته يموت السر، أي يفقد طبيعته السرية. من ناحية أخرى، كاتب المذكرات قد يتعرض لأحداث يعرفها الناس جميعاً ولكنه يعالجها من زاوية جديدة، برؤية من الداخل، يمكن أن تشكل إضافة جديدة، وهامة، للمعلومات المتداولة.
أصبحت أحداثاً عندما بدأت أدنو من الستين، وبدأت أخشى أن تضعف الذاكرة وتبهت الألوان، رأيت أن الوقت قد حان للكتابة عن سيرتي الإدارية. ظل المحذوران اللذان أشار إليهما أبي في ذهني. من ناحية، ليس في هذا الكتاب أسرار. أدى التصاقي بالقيادة السياسية السعودية فترة من الزمن إلى أن اطلع على أمور حساسة، تتعلق في معظمها بالسياسة الخارجية، ولا تزال بعض هذه الأمور أسرارا. عندما تفقد هذه الأمور طبيعتها السرية بانتهاء عمر السر، يمكن أن يكون لها مجال في مؤلف آخر (لم أتعرض في هذا الكتاب لعملي في موقعي الحالي سفيراً في لندن لأن قصة العمل لا يمكن أن تكتمل بدون رواية أشياء يصعب أن تروى في الوقت الحاضر). من ناحية ثانية، حاولت ألا أضيع وقتي ووقت القارئ في تفاصيل الأحداث التي يعرفها الجميع وركزت جهدي على الجانب الخفي من الصورة: خلفية القرارات التي معروفة للجميع.
هذا الكتاب موجه إلى القارئ العادي على وجه العموم وموجه، على وجه التحديد، إلى فئتين من القراء. الفئة الأولى هي أبناء الجيل الصاعد الذي آمل أن يتمكنوا أن يتذوقوا من خلاله نكهة الثورة التنموية التي عاشتها المملكة والتي كان من قدري أن أعاصرها. أما الفئة الأخرى فهي فئة الإداريين الشباب، في القطاعين العام والخاص، الذين أرجو أن يجدوا في تجربتي الإدارية الطويلة بعض الدروس النافعة وأن يستخلصوا منها بعض العبر المفيدة. في الإدارة متغيرات كثيرة، وثوابت أكثر.
كل إداري يتلقى شيئاً ممن سبقه ويبقى شيئاً لمن يخلفه. من البديهيات الأساسية أن الإصلاح الإداري عملية تراكمية متواصلة: وإذا كنت قد قصرت حديثي على الأحداث التي عايشتها دون الأحداث التي سبقت دخولي إلى المسرح أو التي تلت خروجي منه، فلم يكن ذلك بهدف الإقلال من شأن سلف كريم أو خلف كريم. هذا الكتاب يسجل تجربتي الشخصية ويقف عند هذا الحد لا يتجاوزه. من هذا المنطلق، ومنه وحده، آثرت ألا أتطرق إلى أحداث لم يكن لي دور مباشر في صياغتها، ولا يحق لي أن أتصدى لتحليلها.
اتخذت عبر تجربتي الطويلة في الإدارة الكثير من القرارات المؤلمة والصعبة وحاولت، جهدي، ألا يكون أي قرار من هذا القرارات مبنياً على إعتبارات شخصية، وحاولت، جهدي، ألا أسيء على أي نحو إلى فرد أو أفراد. والآن وأنا أكتب عن هذه التجربة أرجو ألا يكون في الكتاب ما يمس بأي نوع من أنواع الأذى فرداً أو أفراداً. إذا فشلت، والكمال الله وحده، فها أنذا أستميح كل إنسان أخطأت في حقه وأنا أتخذ القرار، أو أروي قصة القرار، العفو والمغفرة. *وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم*.
بقيت كلمة تقتضي الأمانة التاريخية أن أقولها: لا أدعي أني قلت، هنا، الحقيقة كاملة، ولكني أرجو أن كل ما قلته، هنا، حقيقة».
هذا الكتاب يمثل كنزًا في علم الإدارة التجريبي البعيد عن التنظير، وهو فرصة ثمينة لمن أراد أن يقف على فنون الإدارة وتفاصيلها.