د.سالم الكتبي
يقفز اسم الصين إلى الواجهة في أي نقاشات حول العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ويتكاثر الحديث بشكل خاص حول احتمالية قيام بكين بدور وساطة لإنهاء هذه الأزمة غير المسبوقة، وقد اكتسب هذا الحديث زخماً بعدما قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن على الصين «التوسط في محادثات سلام مستقبلية بين روسيا وأوكرانيا نظراً إلى أن الدول الغربية لا يمكنها لعب هذا الدور»، واصفاً دور الصين بأنه «لا بديل له»، وأنه «لا يمكن للدبلوماسية أن تكون أوروبية أو أمريكية.. الدبلوماسية الصينية لديها دور تلعبه هنا».
المقاربات التي ترشح الصين للعب دور وساطة فاعل تنطلق من علاقات الصين القوية بروسيا، ولكنها لا تنظر كثيراً لتوتر علاقات الصين مع الولايات المتحدة التي يُنظر لها كقائد للدول الغربية في هذه المواجهة مع روسيا، حيث تتهم الأوساط الرسمية الأمريكية الصين بتقديم دعم ضمني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، وتحمّل بكين مسؤولية اندلاع هذه الحرب لحلف الأطلسي والولايات المتحدة، كما أنها امتنعت عن إدانة الهجوم الروسي ولم تعتبره «غزواً» كما يسميه الغرب، ولكن يجب ملاحظة أن الصين قد امتنعت عن التصويت حين ناقش مجلس الأمن الدولي مشروع قرار بإدانة روسيا في إشارة سياسية ذات دلالة بالغة ومهمة للغاية.
الحقيقة أن الصين تنتهج مساراً حذراً للغاية في هذه الأزمة، فهي ترفض إدانة روسيا التي تربطها بها «صداقة لا حدود لها» على حد وصف بكين، التي تدرك تماماً أن الأعين تترصد مواقفها وتترقب خطواتها بدقة، لذلك يلاحظ أن المواقف الصينية تجاه هذه الأزمة تُنسج بعناية بالغة، فهناك تركيز في الخطاب السياسي الصيني على أهمية «التفاوض المباشر» وضرورة تفادي حدوث «أزمة إنسانية كبيرة»، ودراسة ردود الأفعال والمواقف لأن الصين التي تتحسس طريق الصعود للتنافس على قمة هرم النظام العالمي تدرك أهمية استخلاص دروس هذه الأزمة ولا سيما في حال حسمت أمرها بشأن استعادة جزيرة تايوان، مع ما ينطوي عليه مثل هذا القرار من تفاعلات تقترب كثيراً مما يحدث حالياً في أوكرانيا.
اللافت أن الاتحاد الأوروبي يدعو الصين للدخول على خط الوساطة في وقت يتحدث فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن عدم وجود حل دبلوماسي قريب لأزمة الحرب الأوكرانية، ما يعني أن باريس لا ترى أفقاً واضحاً لنجاح العمل الدبلوماسي، ولكن الواقع يقول إن الدبلوماسية الصينية تمثل في الواقع طوق الإنقاذ للعالم في هذه الأزمة، ولكن الشواهد تؤكد كذلك أن بكين لن تدخل على خط الوساطة من دون دراسة كافية ووافية لفرص نجاحها في هذا الشأن.
وأتصور أن الصين قد لا تدخل على خط الوساطة سوى في حالة التأكد من أن دورها سيخدم مصالحها الإستراتيجية أولاً، ثم تقديم العون للحليف الروسي للخروج من مأزق أوكرانياً ثانياً؛ حيث يمكن أن تكون الصين الوسيط القادر على إخراج الوساطة بالشكل الذي يضمن لروسيا الهبوط من فوق قمة الشجرة التي صعدت إليها بإرادتها ومن دون إراقة ماء الوجه، علماً بأن بكين تبقى الطرف الدولي الوحيد الذي يمكن لموسكو الوثوق به في هذه الظروف المعقدة، كما أن الدور الصيني يمكن له كذلك إيجاد سبيل لوقف العقوبات الغربية شريطة أن يتوافق هذا الدور مع رغبة العواصم الغربية في وقف التصعيد وإنهاء الحرب فعلياً، وهي مسألة يشكك بها الكثير من المراقبين الذين يعتقدون أن هذه العواصم ترى في هذه الحرب فرصة ثمينة لاستنزاف قدرات روسيا العسكرية والاقتصادية.
لذا فإن الصين، كدولة كبرى لها ثقلها ومكانتها العالمية، لن تبادر بالدخول في وساطة من دون أن تحصل على ضوء أخضر من الرئيس بوتين، لا سيما أن بكين ليست بحاجة إلى دور في هذه الظروف والأفضل لها أن تبقى بمنأى عنها قدر الإمكان، وإن كان الدافع الوحيد لها - من وجهة نظري - هو مصلحتها في الإبقاء على قوة روسيا ولكن من دون السماح لها كذلك بالتمادي بحيث تتجاوز تراتبية محتملة للصين في النظام العالمي، أي من دون أن تحقق روسيا انتصاراً عسكرياً وإستراتيجيا كبيراً يعزز نفوذها العالمي، وهو ما قد يكون اقتطاعاً من رصيد الصين المحتمل في قادم السنوات.
الصين تسعى بالتأكيد للخروج من هذه الأزمة بأكبر مكاسب استراتيجية ممكنة، مع تفادي أي خسائر اقتصادية أو تجارية، لذا فهي لا تريد الدخول في مواجهة حادة مع الدول الغربية دفاعاً عن روسيا، ولا ترغب كذلك في خسارة موسكو بتقديم دعم مباشر وصريح لحربها في أوكرانيا، بل حرصت على التفرقة بين ما يحدث في أوكرانيا وما يمكن أن تفعله حال قررت استعادة جزيرة تايوان، معتبرة أن القانون الدولي يفصل تماماً بين الحالتين. وتدرك الصين أن موقفها في أزمة أوكرانيا لا ينفصل عن مبادئها التي تراهن عليها في رحلة الصعود لقمة النظام العالمي، وأولها احترام السيادة الوطنية للدول وعدم التدخل في شؤون الآخرين، ولكنها تعمل كذلك على تفادي السيناريو الأسوأ لها وهو خسارة روسيا وفشلها في تحقيق أهدافها في أوكرانيا، أو سقوط الرئيس بوتين واحتمالية صعود حكومة مهادنة للغرب في موسكو، بكل ما يعنيه ذلك من سلبيات على الصين التي ستجد نفسها - وقتذاك - وحيدة في وجه الضغوط الغربية.
تدرك الصين أيضاً أن طموحها الاستراتيجي يستوجب التمسك بأقصى درجات الحذر السياسي والدبلوماسي في التعاطي مع طرفي الأزمة، الغرب وروسيا معاً، كي لا تتأثر مصالحها بأي خطوات أو مواقف غير محسوبة بدقة تامة، ناهيك عن أنها تخضع هذه الأزمة للبحث والدراسة لتقدير موقفها حيال تايوان، واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب سواء باستعادة الجزيرة، أو مواصلة التريث وإستراتيجية الصبر الإستراتيجي حتى يأتي الوقت الذي يمكن أن تعتبره بكين وقتاً مناسباً لتحقيق هذا الهدف.