تشتهر بلدات نجد عموماً وبلدة عودة سدير منها بكثرة أوقافها وتنوع مصارفها، ومن قدر له الاطلاع على كثير من وثائقها يلحظ ذلك، وهي بذلك تعكس حالة التكاتف الاجتماعي التي عاشها الآباء والأجداد، والمبني على التدين، ورجاء ما عند الله، وحب الخير والنفع للآخرين، وقد جمع أوقاف جامع عودة سدير الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم بن عبدالله العمران (إمام الجامع في الفترة من 1391هـ إلى 1396هـ) في وثيقة مطولة سنفردها في مقالة خاصة بها.
وتشكل الأوقاف -في ذلك الزمن- لبنة أساسية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والعلمية للبلدات النجدية، ورافداً مهماً تعتمد عليه في دعم أعمال الخير والمحتاجين داخل الأسر بشكل خاص والبلدة بشكل عام، نظراً لديمومتها كمورد ثابت، وتنوع مصارفها، ومشاركتها في التنمية المستدامة لتلك البلدات، كما أنها من أجل العبادات وأعظم القربات إلى الله -عز وجل-، كونها تصرف في وجوه الخير والبر وصلة الأرحام، ولا ينقطع أثرها بعد موت صاحبها.
وتبرز أهمية الوثائق التاريخية كونها تقدم الحقائق بكل صدق وأمانة وموضوعية، فهي تسجيل موثق ومثبت للأحداث وقت وقوعها، كما تحفظ تفاصيلها وتحميها من التغيير أو التبديل، بخلاف ما يتناقله الناس في الموروث من قصص وأخبار يدخل في كثير منها المبالغة، وربما معلومات غير صحيحة أو غير دقيقة، ويشوب بعضها كثير من الخيال، حيث تتأثر بما يريد المتناقلون لها من إظهاره أو إخفائه، كما تتغير فيه تفاصيل أصل الحادثة بحكم طبيعة النقل من جيل لآخر، وهذا لا يقلل من قيمته؛ ولكن تبقى الوثائق التاريخية أكثر موثوقية منه، ونقل هذا الموروث يحتاج من الباحثين الكثير من البحث والتقصي والتمحيص، وليس السرد القصصي، بل عرضه بأسلوب علمي أقرب إلى الموضوعية، وتفسيره بحسب سياقه التاريخي، وذلك حتى نحفظ لتراثنا صدقه وموثوقيته.
كما تعتبر الوثائق الوقفية من أرقى أنواع المصادر التاريخية وأصدقها، حيث يتولى كتابتها عادة القضاة والعلماء، وتبنى عليها كثير من المسائل الفقهية، والمعاملات التجارية، والحقوق المالية والعينية، المتعلقة بقضايا الوقف، وما ينتج عنها من عمليات تتعلق بالنظارة والمناقلة والمغارسة والمزارعة، كما تحوي معلومات ذات صلة بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
نص الوثيقة:
بسم الله الرحمن الرحيم
السبب الداعي إلى تحريره وإنشائه وتقريره هو أن الحر المكلف الرشيد رئيس العودة عامر أقر في حال صدور الإقرار منه شرعاً لقد وقف ما هو ملكه وتحت تصرفه نخله المسمى بالقرادي في علو بلد العودة يحده من شمال الحامي، ومن قبله مجرى سيل الجماعة ومن جنوب الدار دار محمد بن عامر، ومن شرق ملك آل صقر وقف عامر المذكور العقار المزبور على بنيه، وهم سعد وسعدون وبراهيم وعلى بنيهم ما تعاقبوا وتناسلوا الذكور دون الإناث، ومن مات عن ولد نصيبه لولده ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأولاد أخيه فإن انقطعت والعياذ بالله ذرية سعد وسعدون وبراهيم فعلى أولاد أخي عامر وهم صالح وعلي وليس لأولاد البنات شيء، واستثنى عامر المذكور غلة ذلك الوقف مدة حياته واستثنى بعد موته مئتي وزنة تمر خضري كل سنة على الفقير من أولاده الذكور فإن لم يكن منهم فقير فعلى الأقرب فالأقرب من ذكور أقاربه المستحقين بالوقف وسلجة المطلاع الشرقي أضحية دهر صدر هذا الوقف من موقفه المذكور مشتملاً على شروط الصحة، فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه شهد بذلك حمد بن سويلم، ومحمد بن خريف، وكتبه وحكم بصحته محمد بن ربيعة محمد العوسجي، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ونقل ذلك من كتب محمد بن ربيعة بعد معرفته يقيناً حرفاً بحرف من غير زيادة ولا نقصان، منصور بن عبدالرحمن أباحسين ونقله من خط منصور أباحسين، بعد معرفته يقيناً إثباتاً لما يصح فيها من وقفها عثمان بن منصور. (ختم: الواثق بالعلي الغفور عثمان بن منصور).
بيانات الوثيقة:
* حالة الوثيقة: الوثيقة بحالة جيدة، فقد سلمت من التلف والسقط والتعديل والطمس.
* شكل الوثيقة: تتكون الوثيقة من ورقة واحدة (عرضها 10سم، وطولها 19سم).
* نوع الورق: استخدم في كتابة الوثيقة ورقة بيضاء تميل إلى الاصفرار، وقوامها متين نوعاً ما مقارنة بغيرها من الوثائق.
* الخط: كتبت الوثيقة بخط الرقعة، وهو يعتبر خطاً بسيطاً يتواءم مع حركة اليد، وكذلك قليل التعقيدات والتزيينات، مما يجعل الكتابة به سريعة، ورسمه واضح وسهل القراءة، وهو خط عثماني في أساسه، واستخدم منذ القرن الثامن الهجري تقريباً.
* المداد: استخدم مجدد الوثيقة المداد (الحبر) الأسود في كتابتها، وهو مستخلص من مواد طبيعية متوافرة بالبيئة المحلية في زمنهم.
* السطور: كتبت الوثيقة على وجه واحد من الورقة، وبسطور متلاصقة، وهوامش ثابتة، وباستقامة رائعة، وبلغ عدد أسطرها (20) سطراً من غير سطر البسملة.
* علامات الترقيم: لم يستخدم مجدد الوثيقة، وفي الغالب كاتبها، علامات الترقيم، وهي علامات تكتب بهدف تنظيم القراءة والكتابة، أثناء النص أو في نهايته، مثل: النقطة والفاصلة، وهذا ملاحظ في معظم الوثائق النجدية في ذلك الوقت.
* اللغة: اتصفت الوثيقة بحسن الصياغة وإحكامها، ووضوح المعنى، ودقة الألفاظ، وبخلوها تقريباً من الأخطاء النحوية والإملائية.
* مصدر الوثيقة: الوثيقة محل الاستعراض إحدى وثائق أسرة العمران (وهم من آل عامر البدارين الدواسر أهل عودة سدير)، وهي محفوظة لديهم بأصلها ضمن أرشيف (خزانة) الجد ناصر بن عبدالله بن عمران بن محمد العمران، وهي خزانة حوت مجموعة من الوثائق المهمة جداً، والتي تعرض حقائق عاشتها عودة سدير خلال أربعة قرون تقريباً، مما يجدر الوقوف عندها لفهم التاريخ فهماً عميقاً، ويؤكد من خلالها على القيم، وأخذ العظة والعبرة من تلك الأحداث، وسوف نستعرض المناسب منها في مقالات قادمة -بإذن الله-.
* العين الموقوفة: حدد الوقف في النخل المسمى (القرادي)، ويقع في أول قرية عودة سدير على اليمين للقادم من الشمال للجنوب على خط سدير القديم، حسب الإحداثية الجغرافية التالية: (25.5536374, 45.6675307).
* بلد الوقف: عودة سدير، وهي من البلدات التي تتبع إقليم سدير (محافظة المجمعة)، التابعة لمنطقة الرياض، وتقع في السفوح الشرقية من جبل طويق، وفي الجانب الغربي من العتك الكبير، وتحتل جزءًا كبيراً من وادي سدير (وادي الفقي)، وتبعد عن مدينة الرياض حوالي 130 كم شمال غرب، وهي من أقدم قرى سدير، حيث يوجد بها على سبيل المثل: موقع بلدة قديمة وهي مسافر، وقصري غيلان وجماز، واكتشف على بعض حجارتها بالقرب من تلعة العبادية وسوم ورموز بالقلم الثمودي.
* حدود الوقف: ما زالت آثار حدود هذا الوقف (الحامي، مجرى سيل الجماعة، ودار محمد بن عامر) موجودة حتى وقتنا هذا.
* تاريخها: لم يكتب تاريخ الوثيقة، ولكن من خلال المقاربة بين تاريخ وجود كاتب الوثيقة الشيخ محمد بن ربيعة العوسجي (ولد سنة 1065هـ وتوفي سنة 1158هـ)، مع تاريخ وفاة حفيد صاحب الوقف عثمان بن سعدون بن عامر سنة (1181هـ)، فعليه من المحتمل أنها كتبت مطلع القرن الثاني عشر للهجرة.
* صاحب الوقف: عامر (لم يوضح في الوثيقة اسمه كاملاً، وهذا يدل على أنه عَلَم لا يحتاج إلى تعريف في زمانه) وهو رئيس العودة، ويستخدم لفظ رئيس في تلك الفترة بمعنى أمير البلدة، ولعل من هذا ما يؤكد زمن الوثيقة بالاطلاع على حوادث هذه السنوات في كتب مؤرخي نجد في تلك الفترة عند ذكر أمراء البلدات. وعامر من الأسماء التي يكثر التسمية به بين البدارين نسبة إلى شيخ الدواسر عامر بن بدران (القرن الثامن للهجرة).
* نوع الوقف: يدخل هذا الوقف في الوقف الأهلي (الذري)، حيث حبس العين الموقوفة، وتصدق بريعها على ذريته (الأولاد، الأحفاد، الأسباط، والأقارب).
* ناظر الوقف: لم يحدد ناظراً للوقف في الوثيقة، وذلك ربما يعود إلى أنه جرت العادة أن يكون الناظر هو أحد المستفيدين من الوقف من ذريته أو في حال انقطاعهم أقرب الناس له.
* كاتب الوثيقة: كتب هذه الوثيقة الوقفية قاضي المحمل الشيخ محمد بن ربيعة بن محمد بن ربيعة بن محمد بن عبدالله العوسجي البدراني الدوسري ولد سنة 1065هـ، وتوفي في صفر سنة 1158هـ.
* الختم: مهرت الوثيقة بختم الشيخ عثمان بن منصور (الواثق بالعلي الغفور عثمان بن منصور).
* الشهود: شهد على هذه الوصية، كل من:
حمد بن سويلم: حمد بن سويلم البدراني الدوسري من أهل ثادق.
محمد بن خريف: محمد بن خريف الوهبي التميمي من أهل عودة سدير.
* مجددو الوثيقة: جددت الوثيقة مرتين، وقد جددها التالية أسماؤهم:
منصور بن عبدالرحمن أبا حسين: من طلبة العلم المعروفين، وابن الشيخ عبدالرحمن بن عبدالمحسن بن عثمان أبا حسين الوهبي التميمي (تولى الشيخ عبدالرحمن القضاء في حريملاء والمحمل وعودة سدير والزلفي، توفي في الخامس من شوال سنة 1236هـ).
عثمان بن منصور: الشيخ عثمان بن عبدالعزيز بن منصور بن حمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حسين من آل رحمة الناصري التميمي، وهو قاضي سدير، ولد سنة 1200هـ، وتوفي في ربيع الأول سنة 1282هـ في حوطة سدير.
أشخاص ورد ذكرهم في الوثيقة:
* محمد بن عامر: وهو جد أسرة العمران البدارين الدواسر أهل عودة سدير، وتتضح مكانته في بلدته، ولدى صاحب الوقف، وعلاقته به، عند ذكر داره بقوله: «الدار دار محمد بن عامر».
* سعد بن عامر: الابن الأول لعامر صاحب الوقف.
* سعدون بن عامر: الابن الثاني لعامر صاحب الوقف، وهو والد عثمان بن سعدون الذي تولى رئاسة عودة سدير في زمنه.
* إبراهيم بن عامر: الابن الثالث لعامر صاحب الوقف.
* عامر (الأول): الأخ الأكبر لعامر صاحب الوقف، ويتضح من الوثيقة أنه توفي قبل ولادة عامر صاحب الوقف، لذا سمي عامر صاحب الوقف على اسمه، كما حصل مع أبناء الملك عبدالعزيز (رحمه الله) تركي الأول وتركي الثاني، ومن ذلك أيضاً أخوان توليا إمارة الغاط من أسرة السديري، وهم فهد (الأول) ابن سعد بن عبدالمحسن السديري توفي في حدود سنة 1326هـ ، وفهد (الثاني) ابن سعد بن عبدالمحسن السديري توفي سنة 1395هـ. وغيرهم مما جرت به عادة أهل نجد في تسمية أبنائهم على آبائهم. أو على أبنائهم المتوفين.
* صالح بن عامر: الابن الأول لعامر (الأول).
* علي بن عامر: الابن الثاني لعامر (الأول).
معاني بعض الكلمات:
وردت في هذه الوثيقة بعض المفردات والعبارات، التي ربما يشكل على البعض فهمها، لذا سنوضح المقصود بها، فيما يلي:
* الوقف: الوقف في اللغة يقصد به الحبس والمنع، ويجمع على أوقاف، أما اصطلاحاً فهو حبس المال لله، بحيث يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه.
* الحامي: السور الذي يحمي البلدة، ويحيط بها.
* مجرى سيل الجماعة: مجرى السيل الذي يمر بين النخيل، وهو يخدم أهل البلدة.
* المزبور: المكتوب أعلاه.
* ما تعاقبوا وتناسلوا: ما استمرت ذريتهم، على الترتيب، فمن مات عن ولد يجري للولد أو الأولاد ما كان يجري للوالد، ومن مات عن غير ولد فنصيبه ينتقل لأولاد إخوته.
* انقطعت ذرية: انقطع نسلهم، ولم يعقبوا.
* وزنة: وحدة وزن لقياس كتلة تساوي (1.5 كيلوجرام تقريباً).
* غلة: ناتج المحصول.
* خضري: من أصناف التمور، وهو مشهور في سدير، يتميز بكبر حجمه، واعتدال حلاوته، وتحمله لظروف التخزين طويل الأمد.
* سلجة: من أصناف التمور المشهورة في سدير، وهي على نوعين، سلج العيش، وسلج القطار، وسلج القطار أطول من سلج العيش، وأكثر حلاوة، وأكثر دبس.
* المطلاع الشرقي: موضع خروج الماء من الجابية (حوض يجمع فيه الماء المستخرج من البئر) باتجاه الشرق.
* دهر: على مدى الزمان الطويل.
* صدر: مقدمة هذه الوثيقة الوقفية.
تحليل الوثيقة:
يعتبر إقليم نجد في الفترة التي سبقت قيام الدولة السعودية -حفظها الله ورعاها- في مرحلتها الأولى (1157هـ إلى 1233هـ) من الأقاليم المضطربة التي دارت في رحاها كثير من الحروب والمناوشات بين مدنها وقراها وقبائلها، وذلك لعدم وجود سلطة مركزية، والإهمال من قبل الدول والإمارات التي كانت تسيطر على المنطقة في ذلك الوقت، والحالة الاقتصادية الضعيفة التي كانت تعيشها، وقد نتج عن ذلك ضعف الحالة العلمية بشكل عام لانشغال الناس بتأمين مصدر عيشهم والحفاظ على أمنهم، وكذلك هجرتهم لمناطق أخرى بحثاً عن لقمة العيش والأمن، ومع ذلك فقد برزت في نجد حواضر اشتُهرت بالعلم، وتخرج على يد علمائها القضاة الذي تولوا القضاء والحكم بين الناس في بقية بلدان نجد، وجلسوا للتعليم والتدريس، ولقد اطلعت على بعض المراسلات بين علمائها، والتي يناقشون فيها قضايا فقهية عميقة، يستنبطون الأحكام فيها من الأدلة الشرعية من القرآن والسنة، ويستدلون لها بأقوال العلماء.
والوصول إلى مثل هذه الوثيقة أمر في غاية الأهمية، حيث إنها من الوثائق النادرة بين مثيلاتها، كما تعتبر إضاءة توثيقية لفترة تاريخية مظلمة، فهي توثق لكثير من الأسماء والإمارات والمواقع، وتبلغ أهميتها لدارسي الأوقاف والباحثين في التاريخ والأنساب.
افتتحت الوثيقة بالبسملة ثم السبب الداعي لكتابتها، وبعد ذلك تضمنت الوثيقة أركان الوقف (الواقف، الموقوف، الموقوف عليهم، والصيغة)، وكتبت بتفصيل واضح لا لبس فيه، واستخدمت العبارات الشرعية اللازمة لتحقيق الغرض، واختتمت ببيان الحكم الشرعي لصحة الوقف، والتحذير من تعديله أو تحريفه، وبيان أسماء الشهود، واسم كاتب الوثيقة، ثم الصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، وبعد ذلك ورد اسمي مجددي الوثيقة.
ولعلنا هنا نشير إلى أهم الفوائد التي يمكن استخلاصها من الوثيقة:
* الرئاسة (الإمارة) في عودة سدير تلك الفترة كانت في آل عامر، سواء قبل عامر صاحب الوقف أو بعده، حيث من المعلوم في نجد وغيرها أن الإمارة في البلدات يتم تناقلها من الأجداد للآباء والأبناء، أو داخل أسرة أو أسر معينة، وكذلك المشيخة في القبائل.
* يحرص كثير من أصحاب الأوقاف على كتابة وصاياهم بيد قضاة وعلماء، وذلك لضمان مطابقتها للأحكام الشرعية، واشتمالها على أركان الوقف، وبيان حدوده ومصارفه وشروطه ومقاصده بشكل دقيق، مما دعا صاحب الوقف (رئيس العودة عامر) لكتابة هذه الوثيقة الوقفية لدى أحد أبناء عمه في ثادق، وهو قاضي المحمل الشيخ محمد بن ربيعة العوسجي البدراني الدوسري.
* ورد اسم أسرة آل صقر عند الحديث عن حدود الوقف (ومن شرق ملك آل صقر)، وهي أسرة لم تعد موجودة حالياً في عودة سدير، وربما تكون لهم علاقة بأحد الأسر البدرانية التي تحمل نفس الاسم في المحمل (محافظة ثادق)، وهي محافظة قريبة من عودة سدير، أو ربما أسرة فنت، أو انقطع نسلها، أو نزحت لبلد آخر، أو كان وجودها مؤقتاً لأسباب تتعلق بالزواج من إحدى الأسر في البلدة، أو تغير اسمها. وقد وجدت في خزانة الجد ناصر بن عمران وثائق عديدة لأسر أخرى لم يعد لها وجود في عودة سدير، ومنها على سبيل المثال: السالمي، القريشي، بن حسن، بن بذار، بن سند، بن دليهان، بن نمي، أبا نمي، أبا سويد، الفريح، الكليبي، الصانع، بن عبدالوهاب، بن قازان، بن عبدالمغني، العلقمي، بن فارس، وغيرهم.
* وضع الواقف بعض الشروط لهذا الوقف، وهي:
مصلحة الوقف في أبنائه الذكور ولذريتهم من بعدهم.
يكون الأبناء محل أبيهم في حال وفاته، وإن لم يكن له أبناء فتنتقل لأبناء إخوانه.
إذا انقطعت ذريته من الذكور تنتقل لأبناء أخيه بنفس الشروط.
يبدأ تحصيل منفعة الوقف للأبناء بعد ممات صاحب الوقف (والدهم).
استثنى صاحب الوقف من غلة الوقف مئتي وزنة تمر (300 كج تقريباً) للفقير من ذريته الذكور، فإن انقطعت ذريته تنتقل للذكور الفقراء من أقرب الناس إليه.
ثمرة النخلة السلج (حدد موقعها ونوعها بسلجة المطلاع الشرقي) في أضحية له أبد الدهر.
* حدد صاحب الوقف الاستفادة من مصلحة الوقف للذكور من ذريته دون الإناث، وكان ذلك منتشراً في الوثائق الوقفية النجدية تلك الفترة، وقد اطلعت على وثائق وقفية كثيرة تسبق دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورد فيها هذا الشرط، وكان له ما يبرره من وجهة نظرهم، حيث إن القرى كانت صغيرة، والمزارع محدودة، وكانوا يخشون من خروج مصلحة هذه الأوقاف لأسر غير أسرهم، ومن منازعة تلك الأسر لأسرته وذريته من بعده، لذا كانوا يكتبون وصيتهم في الثلث من مالهم أو أقل بتلك الطريقة، حماية ورعاية لمستقبل مصالح أسرتهم وذريتهم، وهذا بطبيعة الحال ليس في الورث وإنما فقط في الثلث من المال أو أقل، وكانت مصلحته تخصص للفقير من ذريتهم، خشية عليهم من صروف القدر ونوائب الدهر، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، فأوضاع ذلك الزمان وظروفه، وطبيعة الحياة الاجتماعية السائد كان يحتم عليهم السعي للمحافظة على أملاكهم قدر ما يستطيعون. وقد أفتى الشيخ محمد بن عبدالوهاب (ولد سنة 1115هـ وتوفي سنة 1206هـ) بعدم جواز ذلك، وحفيده الشيخ عبدالرحمن (ولد سنة 1193هـ وتوفي سنة 1285هـ) بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب (من صورة وثيقة لدى صاحب المقال)، وعلى ذلك جرت الفتيا من بعدهم في عهد الدولة السعودية -حفظها الله-. ويعلم الفقهاء أنّ الأحكام الاجتهادية تتغير بتغير الزمان والمكان، وهي تلك الأحكام التي لم يرد فيها نص قطعي الدلالة وقطعي الثبوت، وعلماء الشريعة هم أهل الاختصاص والاجتهاد، والأعلم بما يدخل في هذه القاعدة وما يخرج عنها، وما يجوز وما لا يجوز، وذكرنا لذلك لا يعدو كونه تحليلاً للواقع، وبياناً للصورة في ذلك الزمان.
* حدد صاحب الوقف مصرفين فقط للوقف، وهما مائتي وزنة تمر (300 كج تقريباً) للفقير من ذريته الذكور في المرتبة الأولى، وذرية أقاربه، الأقرب فالأقرب في المرتبة الثانية، وثمرة سلجة المطلاع الشرقي في أضحية، أما بقية الوقف فجعله مفتوحا في كل ما ينفعهم، ويعينهم، مما يفسح المجال أمامهم، ولا يضيق على بنيه، ويرهق كاهل الناظر للوقف.
* أقر بصحتها وبأنها مشتملة على شروط الوقف، ويعتمد العمل بها القاضي الذي كتبها في الأصل وهو الشيخ محمد بن ربيعة العوسجي، وكذلك القاضي الشيخ عثمان بن منصور، وذلك كون الأول قاضي المحمل، والثاني قاضي سدير.
* ختم الشيخ محمد بن ربيعة العوسجي كتابته للوثيقة الوقفية باللفظ الذي عادة يختتم به علماء وقضاة نجد كتابتهم للوثائق الوقفية بقوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } سورة البقرة، آية رقم 181.
كما وردت إضاءة لغوية جميلة في ثنايا الوثيقة، وهي عندما استخدم صاحب الوقف الجملة الاسمية المكونة من مبتدأ وخبر صريحين، بدلاً من الجملة الخبرية، بمبتدأ مقدَّر، عند تحديد مكان الوقف بقوله «ومن جنوب الدار دار محمد بن عامر» بدلاً من (ومن جنوب دار محمد بن عامر)، وهذا يسمى أسلوب القطع، وهو أن تأتي بمبتدأ جديد، فالدار مبتدأ ودار محمد بن عامر خبر، فإذا أنشأت جملة مكونة من مبتدأ وخبر، وذكرت المبتدأ صراحة «الدار» ولم تترك المبتدأ مقدراً تأولاً، عندها تكون العلة البلاغية التأكيد، ولفت انتباه السامع للكلمة المراد الإخبار عنها، وتقوية المعنى بذكر المبتدأ صراحة، فالجملة الاسمية أقوى في الدلالة من الجملة الفعلية، والجملة الاسمية، التي يذكر فيها المبتدأ صراحة أقوى من الجملة التي يُفهم فيها المبتدأ ضمناً، أو يحذف ويقدر من السياق. ختاماً، نسأل الله لجميع من وردت أسماؤهم في هذه الوثيقة والمقالة الرحمة والمغفرة، ولجميع موتى المسلمين.
** **
- د. حمد بن إبراهيم بن عبدالله بن ناصر العمران