سعد بن دخيل الدخيل
جلجل في الرياض في شوال 1319هـ صوت مرتفع سمعه أهل الرياض وذاع في أرجاء الجزيرة العربية أن «الملك لله ثم لعبدالعزيز»، فشرع المؤسس بعدها دون كلل أو ملل في التوحيد وضم أرجاء الجزيرة لتكون تحت رايته بجهود متوازية مع التغيير والبناء والتشييد. يقول د.جورج خير الله في كتابه (نهضة الجزيرة العربية): «لقد وحَّد الجزيرة العربية ثم عكفَ على تطويرها من جديد»، ثم يقول: «ولقد شيد عبدالعزيز -رحمه الله- اليوم مملكته الواسعة العسيرة العبور، وهو يحكم شعباً حراً نفر من الجمود وأخذ يوائم بين نفسه وبين الاتجاهات الجديدة». وفي هذا السياق يقول الميجر جنزال باتريك هيرلي المندوب الشخصي للرئيس روزفلت عن الملك عبدالعزيز: «إنه أحكم الأقطاب الذين قابلتهم في البلاد العربية وأقواهم، وهو ذو بصيرة نفاذة، ومقدرة على العمل فائقة، فهان عليه أن يقود شعبه في متابعة ركب الحضارة في العالم». وهذه السمات القيادية والإدارية -كما قال أ.د. حسين بن محمد علي العلوي في مقاله الذي نشرته العزيزة الجزيرة- نبعت من قدراته وإمكاناته الفطرية من ذكاء، وفطنة، وقوة بديهة، وتلقائية، وخبرة، ورجاحة في الرأي، وقوة في الإقناع والتأثير، وبلاغة في الخطاب، وسلامة في القرار، ولا يعني أن تركز السلطات في يده -رحمه الله- انفراده بالرأي وعدم المشورة، ففي مرحلة التكوين تمكن من اجتذاب نخبة من الرجال الأكفاء ممن صهرتهم التجارب ولديهم التجربة والمعرفة والعلم، يقول الأستاذ محمد بن سعد الرويشد في مقاله «كبار رجال الدولة في بداية عهد الملك عبد العزيز» والذي نشر في العدد 10014 من صحيفة الجزيرة يوم الاثنين 22 ذو القعدة 1420هـ «كان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يحسن اختيار العلماء والقضاة والموظفين الأكفاء من رجال دولته الذين يعرف فيهم الإخلاص والأمانة والتفاني في خدمة الوطن والدولة وتقديم الخدمات لكل مواطن بجد واجتهاد، وكان ذلك الوقت هو زمن التأسيس والبناء لهذا الصرح الشامخ المملكة العربية السعودية وتوحيد أجزائها ولم شملها وإعادة مجدها». وهنا نعود بالذاكرة للوراء لنستذكر رجالات الملك عبدالعزيز الذين رحلوا بأجسادهم، وبقيت سيرتهم العطرة النيرة، ومنهم الشيخ إبراهيم بن عبدالله الشايقي -رحمه الله- من كبار رجال الديوان في عهد الملك عبدالعزيز، والشيخ إبراهيم من أسرة عريقة علماً وفضلاً وأنجبت العديد من الأفذاذ في خدمة الدين والوطن وولاة الأمر، وقد وُلد اشيخ إبراهيم في بلدة السلمية التابعة لمحافظة الخرج عام 1290هـ، وتوفي عام 1381هـ، تتلمذ على يد القاضي عبدالله بن محمد بن عبدالله الخرجي وانتقل معه إلى الرياض وأخذ من علمائها ثم لازم ابنه القاضي سعد بن عبدالله الخرجي، كان موهوباً ومتفرداً منذ أن كان صغيراً، وكان ذي نباهة في القراءة والكتابة وحسن الخط وجماله، كما كان شخصية علمية أدبية واسعة. بعد استرداد الرياض ونجد كلفه الإمام عبدالرحمن بن فيصل مديراً لمكتبه، ومشرفاً على شؤونه الخاصة 1338هـ، إلى أن انتقل الإمام إلى رحمة الله ذي الحجة 1346هـ، بعدها اختاره الملك عبدالعزيز للعمل معه في مجالات كثيرة، وهذا ما أشرنا له في الجزء الأول من المقال في اختيار الملك عبدالعزيز الدقيق للرجال الذين يعملون معه ودقته في استقطاب من لديه روح المبادرة والالتزام وحسن التواصل مع الآخرين والشغف، وهذه من صفات الشايقي التي وجدها المؤسس فيه فجعله المعني بشؤون العلماء وطلاب العلم، فكان المكلف من قبل الملك وضابط الاتصال بينه وبين الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار في تعيين القضاة ومطاوعة الهجر والبيوت، ففي خطاب وجهه الملك عبدالعزيز للشيخ إبراهيم فيما يصرف للقضاة بالتنسيق مع الشيخ محمد بن إبراهيم يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى جناب الأخ المكرم إبراهيم بن عبدالله الشايقي -سلمه الله تعالى- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده من قبل قاعدة الشيخ محمد بن إبراهيم عندكم إن شاء الله تعالى تزيدونها في العيش مايتين صاع وفي التمر خمسماية وزنة تكون راتب زيادة على الذي قد جرى له سابق يكون معلوم والسلام 10 محرم 1349هـ». ويقول عنه الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل في الجزء الأول من كتابه المراسلات (صفحة 192): «التعيين في الخرج، وأثناء وجودي في الرياض أقيل الشيخ سالم الحناكي من قضاء الخرج فاقترح الشيخ محمد بن إبراهيم على الملك عبدالعزيز أن يعينني في الخرج فلم أشعر إلا والرسول إبراهيم الشايقي يبلغني أن أحضر لديه في القصر الساعة 2 غروبي (يعني الضحى)»، حتى يقول: «وإبراهيم الشايقي من أخص رؤساء الديوان وهو وكيل الملك عبدالعزيز على بعض أملاكه»، حتى قال: «وهو واسطة الملك مع المشايخ يبلغهم أوامره ويرفع لهم شؤونهم»، كما أنه -رحمه الله- كان مسؤولاً عن صرف مكافآت طلبة العلم والمبتدئين في طلب العلم على المشايخ وأئمة ومؤذني مساجد الرياض، مخلال تعميد مالية الرياض بإجراء الرواتب الشهرية حيث كانت تصرف عيش وتمر وبعد تحسن الأمور أصبحت تصرف نقداً، كما عهد الملك عبدالعزيز للشيخ إبراهيم -رحمه الله رحمة واسعة- اختيار عمال الزكاة للمواشي في نجد وملحقاتها واختيار طلبة العلم ليقوموا بتحصيلها وتوزيعها وفق القواعد الشرعية، ففي خطاب وجهه الملك حول الزكاة إلى الشيخ إبراهيم قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل إلى جناب الأخ المكرم إبراهيم بن عبدالله الشايقي، سلام وبعد ذلك قوائم بلدان نجد أما البلد الذي غالب فقراها مكتوبين في قائمتها ويفردلها من الزكاة شيء يفرّق على الذي مالهم في القائمة شيء فهذولا قائمتهم على سنعها توزان بينهم موازنة وأما البلد الذي يخرج ربعها بالعادة فمكان في قائمتها من فقير ومسكين ومن أعطى الله وفي الله فينزع من القائمة»، حتى قال في الخطاب التوجيهي للشايقي: «وزكاة الجنوب ما يتولونها الأمراء يتريَّض في الأفلاج واحد من العمال ويتريَّض في الوادي واحد من العمال ويفرقون الزكاة على القائمة بأوراق والأمير مجبور على فكاك ما تعسر من الزكاة إلى أن يسلم للذي هو مسنَّع له والفقرا الذي في قوائم الجنوب يحالون في الربع ويخرّج الربع على يد الوكيل وحضور الشيخ والأمير بأوراق ويجيب الوكيل أوراق التفريق مصدق عليها الشيخ إن شاء الله 26 رمضان 1347هـ»، كما أنه أدار أوقاف الأسرة المالكة من مزارع وعقارات بتحصيل إيراداتها والصرف وفق الوصايا وصكوك الأوقاف في الرياض والدرعية والأحساء والخرج وغيرها بالإضافة للأوقاف العامة وتوثيق الأوراق الشرعية وحفظها وأرشفتها، كما أشرف الشيخ على المزارع الحكومية والصرف عليها، كما أنه ينفذ أوامر الملك عبدالعزيز بإقطاع الأراضي الزراعية وتكليف عمال الخرص والتوزيع بتحديدها وكتابة بعد ذلك وثيقة الإقطاع وتصديقها من الملك عبدالعزيز -رحمه الله. كل هذه الأعمال كان يقوم بها الشيخ إبراهيم بنفس طيبة وتفان في العمل ونزاهة ونظافة يد وأمانة مع حب للخير للناس وحرص على تفريج الكربات، منطلقاً في ذلك بما يحمله من العلم الذي نهله من المشايخ في السلمية وفي الرياض، لذا ذكره أ.د. الوليد بن عبدالرحمن الفريان في كتابه الوراقة في منطقة نجد وقال معلقاً على ذلك: «من أشهر كتاب الملك عبدالعزيز -رحمه الله- كان الشيخ عبدالعزيز بن مرشد (توفي 1417هـ) يثني عليه كثيراً ويصفه بالتقوى والورع وهو الذأبلغه بعزم الملك عبدالعزيز على تعيينه في القضاء فسافر الشيخ [بن مرشد] إلى بيشه واشتغل بالأعمال التجارية [ورعاً من بن مرشد حتى لا يعين في القضاء]»، وعندما أسس مكتب المطبوعات كان أول من ترأسه لعلمه الشيخ إبراهيم الشايقي والمكتب يختص بجمع الكتب والمطبوعات التي ترد للملك، كما يقوم بتوزيع بعضها على المشايخ والقضاة وأئمة المساجد وطلبة العلم، وكان من أسباب جعله كاتباً للملك إضافة لمهامه الجسام الأخرى خطه الجميل لذا نسخ وحرّر بخطه الجميل الكثير من الرسائل والخطابات التي يبعثها الملك عبدالعزيز للأمراء والمسؤولين وغيرهم، ويقول عنه الشيخ سعد الرويشد رحمه الله: «الشايقي صديق لي وكان مديراً لمكتب الإمام عبدالرحمن الفيصل -رحمه الله- وموضع ثقته ثم صار في عهد الملك عبدالعزيز رئيس مكتب في مقر جلالته ويعرض عليه ما يتصل بهذا المكتب ويأنس منه الملك لعذوبة منطقه وهو أديب فاضل وكريم، فرحمه الله رحمة واسعة»، ويقول الشيخ محمد بن ناصر العبودي في كتابه يوميات نجدي: «يوم الأربعاء 25 محرم 1372هـ، كانت أمسية جميلة قضيناها في الباطن في بستان أحد المقربين من الملك هو المسؤول عن شؤون القضاة والكتب والمطاوعة وأئمة المساجد والمؤذنين ورواتبهم وعاداتهم ومخصصاتهم وهو المسؤول أيضاً عن الكتب كما قدمت وهو إبراهيم الشايقي»، حتى قال: «ثم بدأ يتحدث مع فضيلة الشيخ أحاديث تاريخية نادرة عن آل سعود وعن حكمهم وشؤونهم وعن جلالة الملك عبدالعزيز في ماضيه وحاضره وتمنيت لو أمكنني أن أسجل هذه الأحاديث لأنها نادرة مفيدة لاسيما وهي تتردد بين بطلين من أبطالها فضيلة شيخنا الشيخ عبدالله بن حميد وثنيها هذا: إبراهيم الشايقي» وقد ذكره الأستاذ سعد الرويشد في مقاله بقوله: «ومن الكتَّاب الذين عملوا عند الملك عبدالعزيز هو الشيخ إبراهيم بن عبدالله الشايقي»، وكان في ديوان الملك مجموعة من الكتَّاب ذوي الخط الجميل بالإضافة للشيخ الشايقي. ويقول الأستاذ خالد بن حمد الحمودي في تحقيق للأستاذ فهد الدوس بعنوان (الكشف عن أول تصميم لشعار وختم نادي الهلال صادق عليه مؤسسه، وثيقة رياضية هلالية عمرها 65 عاماً) وقد نشر التحقيق يوم الجمعة 2 محرم 1442هـ - 21 أغسطس 2020م: «كان عمل الوالد في الخاصة الملكية بقسم الحسابات والأمور المالية تحت إدارة إبراهيم الشايقي - رحمه الله - وهو شخصية معروفة سبق له العمل مستشاراً لدى الإمام عبدالرحمن ثم الملك عبدالعزز،واستمر مع الملك سعود - رحمهم الله - وكان رجلاً مثقفاً وحسن الاطلاع وموسوعة في تاريخ الملوك والدول وحباه الله بالحكمة والدراية ببواطن الأمور وبُعد النظر وصاحب رأي سديد، وكانت هناك مقولة مشهورة سمعها والدي عنه قائلاً: (رأي الشايقي ينفع الناس.. ما ينفع نفسه) رحمه الله.»، ولقد استمر الشيخ إبراهيم -رحمه الله- في الخدمة بعد وفاة الملك عبدالعزيز فعمل مع الملك سعود -رحمه الله- بالمهام نفسه وبالتفاني نفسه والولاء، كما أن أفراد الأسرة المالكة يكنون له الاحترام والتقدير، ويحرصون على التواصل معه لعلمه وفضله، فهذا الملك سلمان (الأمير حينها) يبعث له خطاباً ينم عن علو الملك سلمان في الأخلاق وحسن المعشر وتقدير العاملين في الحكومة من الرعية، فيقول: «حضرة المكرم الأخ إبراهيم الشايقي -حرسه الله - بعد التحية أرجو الله أن تكون بكامل الصحة والرفاهية وبعد قصدنا المواجهة بكم ولكن بعد وصولنا في جدة انشغلنا ولم نتمكن من مواجهتكم .... هذا وتقبلوا تحياتنا 28-12-1379هـ». من هذه السيرة للشيخ إبراهيم نعلم أن القائد المؤسس -طيب الله ثراه- يعرف الرجال الأفذاذ الذين يحملون الإخلاص في العمل والولاء للدولة فقربهم واستعان بهم لبناء الوطن وتطويره، فأسس دولة قوية عظمى وتتابع الأبناء فأكملوا المسيرة، واليوم تتضاعف الجهود وتتنوع المشاريع في عهد وقيادة ملك الحزم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان الذي قال في اختيار رجال الدولة: «أهم شيء الشغف، عند المسؤول الكفاءة والقدرة، هذه أساسيات، وأهم شيء يكون الشغف عند المسؤول وتكون قضيته الأساسية». حفظ الله لنا قيادتنا ووطننا وأمدنا جميعاً بالأمن والأمان والتطور والنماء.