د. تنيضب الفايدي
لذّ السفر إليها، واستطاب المحبون لها، هجر الأهل والولد والأصحاب والأوطان، واحتملوا مشقة السفر إليها، إنها مهوى الأفئدة، تهون كلّ الصعاب في سبيل الوصول إلى هذه البقعة المباركة، مهبط الوحي، ومطلع النور، ومشرق الرسالات، إنها حرم الله تعالى؛ مكة المكرمة، جديرة بالمحبة، لأن رب العالمين سبحانه وتعالى أضافها إلى نفسه {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (26) سورة الحج. جعلها الله مهوى الأفئدة.. مهوى القلوب المفعمة باليقين، القلوب الصافية، قلوب موارة بعاطفة من حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، هي موطن سيد البشر، وسيد الأنبياء والرسل، نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، على أرضها ولد، وعلى أرضها المباركة نشأ، وبها بدأت بعثته صلى الله عليه وسلم وبدأ تنزل القرآن الكريم في أجوائها.. أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاطبها عندما أخرج منها «والله إنك لأحب البقاع إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت»، ويعظمها دائماً صلى الله عليه وسلم، ويعظم حرمتها، وأحلت له ساعة ليطهرها من الأصنام ثم عادت حرمتها إلى قيام الساعة، لأنها حرم الله سبحانه وتعالى، بها الكعبة المشرفة طاف حولها الأنبياء وأتباعهم، في سلسلة زمنية متصلة من عهد بنائها الأول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حيث يلتحم جسد المسلم مع أجساد إخوانه وقد التحمت قلوبهم قبلها، ويخطو تلك الخطوات المباركة حول الكعبة ليشكل وحدة المسار مع تآلف القلوب، والدعاء بكلمات وأدعية خرجت من النور المبين، معلّم الإنسانية الخير، نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلها الله قبلة المسلمين أينما كانوا، حيث تتوجه القلوب لخالقها كما تتجه الوجوه في جميع بقاع الدنيا إلى البيت الحرام، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى عندما أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن يجعل قبلته البيت الحرام قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (144) سورة البقرة. وهيأ الله الخيرات بأنواعها استجابة لدعاء أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام. قال تعالى:{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةفَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (37) سورة إبراهيم. جعلها الله -الكعبة- بركة لعموم الخلق، بركة في الرزق، وبركة الأمن والاطمئنان، ومع منزلة الكعبة المشرفة وعظيم حرمتها إلا أن نفس المؤمن أشد حرمة منها. قال صلى الله عليه وسلم: «ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك.. والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمةً منك.. لذلك ارتبطت مكة المكرمة بالأمن، فهي البلد الأمين، من دخلها كان آمناً الأمن الشامل.. الأمن من الخوف بشتى صوره، الأمن من الجوع، الأمن الشامل للأحياء، أمن الحياة، أمن الإنسان، أمن الحيوان، أمن النبات، والأمن الشامل في الدين والدنيا، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى جعل الكعبة المشرفة وهي البيت الحرام قياماً للناس» أي صلاحاً ومعاشاً للناس لقيام أمر دينهم ودنياهم، فالبيت الحرام هو سبب للانتعاش في أمور معاش الناس يلوذ به الخائف ويأمن الضعيف، ويربح فيه التجار ويتوجه إليه في أمن وأمان الحجاج والعمار. وقد امتن الله سبحانه وتعالى على قريش وأهل مكة المكرمة بالأمن في الحرم الشريف. قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا} سورة القصص الآية (57). وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} سورة العنكبوت الآية (67)، إنه مكان الألفة، والمحبة، والائتلاف، واللقاء الجماعي، واجتماعهم آمنين، ولا بد من شكر هذه النعمة، ويكون ذلك بإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} سورة النمل الآية (91). ويشعر المسلم عند دخوله المسجد الحرام ورؤية الكعبة المشرفة بالرهبة.. رهبة الإجلال والتقدير، بل قد يفقد التعبير وتعز عليه الكلمات المناسبة، لتحل الدموع تعبيراً عن رهبة وروعة اللقاء، حيث تجيش المشاعر في تلك اللحظات المتألقة، ولمهابة الموقف ورهبة اللقاء تطفر الدموع حباً وشوقاً حيث إن حب هذا المكان يكمن في القلب والنفس، إن حب الكعبة يتدفق مع نبضات القلب، وأتى إليها المحب على أجنحة من الشوق.. إن موقف الرؤية، موقف التوقير والتهيب، موقف يتواءم مععظم المنزلة للكعبة المشرفة، مع دعاء المسلم بأن يزيدها الله مهابة وتشريفاً، وكلما تكررت الزيارة ازداد الشوق للرجوع إلى هذا البيت، لأن الله سبحانه وتعالى جعله مثابةً للناس وأمناً، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطراً. ولو ترددت إليه مرات ومرات ولا غرابة في ذلك.. لأن الله سبحانه وتعالى جعل الأفئدة تهوي إليه من كل مكان في أرض الله. ويطوف المسلم حول الكعبة المشرفة تواقاً إلى مغفرة الله وقبوله، وقد أشعل أمله في الله، وقوى رجاءه بخالقته، ومن أمامها يمتلئ القلب شحنة تشع فكراً نيراً، تجعل صاحبه أكثر الناس سعادة ومتعة للحياة، كما يسعد من حوله، وتتسع ومتعة للحياة، كما يسعد من حوله، وتتسع دائرة ذلك لتشمل البشر.
مكة المكرمة تلك البقعة الطاهرة التي انبثقت منها أعظم رسالة عرفتها البشرية، لها تاريخٌ موغل في القدم، حيث وضع فيها أول بيت للناس {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (96) سورة آل عمران، ولها مكانة عظيمة في نفوس المسلمين جميعاً، فهي مهد الحضارة، ومهبط الوحي، ومركز العالم الإسلامي ومنبعه.
تميزت مكة المكرمة بمكانة عظيمة في نفوس المسلمين جميعاً عن غيرها من المدن الأخرى، وتوفر لها حظ عظيم من زيارات المسلمين لها لأداء الفريضة والتشرف بكعبتها المقدسة، وأرضها الطاهرة، كما توفر لها الحب والعطف والحنان في قلوب المسلمين حتى إن الإنسان عندما يودعها مفارقاً، يدعو الله من أعماق قلبه أن يعود إليها، كما أنه لا يفارقها إلا وفي نيته الرجوع والعودة إليها؛ لأنه يشعر بأن روحه قد اكتسبت الطهر والنبل وارتفعت إلى آفاق عالية وانزاحت عنها الغيوم والأكدار، وأصبحت أسمى قدراً وأعلى مكاناً.
إن البيت الحرام بمكة المكرمة هبة الله لبني البشر، وأحاول جاهداً أن أتصور إنساناً دون قلب يضخ الدم في الأوردة والشرايين، ويضخ معه المشاعر والأحاسيس، لكنني لا أتصور إطلاقاً (الكرة الأرضية) دون وجود مهوى الأفئدة الكعبة.. البيت الحرام... مكة المكرمة.. حيث إنها أطهر بقعة على وجه الأرض, مهبط الوحي وموقع المسجد الحرام المبارك, وكعبته المشرفة. مهوى أفئدة ملايين المسلمين والمسلمات في شتى أرجاء الأرض.