محمد سليمان العنقري
شنت روسيا الحرب على أوكرانيا بسبب ما وصفته تهديداً لأمنها القومي مما تطلب تحركها عسكرياً تجاه كييف التي كانت تنوي الانضمام لحلف الناتو وهو الأمر الذي لن تقبله موسكو حيث سيكون عدوها حلف الناتو على حدودها وعلى بعد مسافة قصيرة من مدنها الاستراتيجية بخلاف مخاوفها من انتشار لقواعد الحلف وصواريخه على أرض أوكرانيا بحسب ما بررت به أسباب اتخاذها لهذه الخطوة إلا أن هذه الحرب وما تبعها من تداعيات على الشعب الأوكراني انتقلت لمرحلة جديدة في المواجهة الروسية مع الدول التي تحالفت ضدها حيث قاموا بدعم أوكرانيا بالأسلحة والأموال وأيضا فرضوا عقوبات واسعة اقتربت من 6000 عقوبة لم تبق شيء في روسيا إلا وشملته سواء جهات رسمية أو قطاعاً خاصاً وحتى المواطن الروسي طالته العقوبات بشكل مباشر وغير مباشر وبات الروس بثقافتهم ومفكريهم ورجال أعمالهم وطلابهم منبوذين بالخارج في دول الحلف الجديد ضد دولتهم لكن هذا التوسع بالعقوبات لمحاولة الضغط على القيادة الروسية لوقف الحرب والتحول للمسار الدبلوماسي والحل السياسي فجر مخاوف عالمية عديدة.
إذ لم تقف مخاوف الدول والعالم عموماً عند حدود ما قد يحدث من أزمة إمداد للطاقة من دولة روسيا أحد أكبر مزودي النفط والغاز في العالم بل أيضاً قد يخلف طول أمد الحرب أزمة غذائية ستعاني منها دول إفريقية وشرق أوسطية تستورد الحبوب من روسيا وأوكرانيا أحد أكبر المصدرين لهذه السلع عالمياً، فالقلق والخوف العالمي انتقل لما هو أكثر تعقيداً إذ إن هذه الأزمة الطاحنة هزت الثقة بالنظام العالمي وأصبحت أنظار العالم ترقب شكل النظام الدولي الجديد فأوكرانيا مثلاً ترى في طلب انضمامها للناتو والاتحاد الأوروبي حقاً سيادياً هي من يقرره مما يطرح تساؤلاً حول احترام السيادة الدولية وهل فعلاً جهات كالأمم المتحدة بكل ما يتبع لها من مؤسسات ومنظمات وكذلك مجلس الأمن الدولي تمكنوا عبر عقود منذ تأسيسهم من صون سيادة الدول؟ ولماذا يخترق النظام الدولي من قبل دول يفترض أنها كبرى ومنوط بها دعم الاستقرار والسلم بالعالم ولديها مقاعد دائمة بمجلس الأمن فالغرب لديه مواقف متذبذبة وغير واضحة في دعم السلم الدولي عبر شواهد عديدة ومنذ عقود خصوصاً في القضايا العادلة مثل قضية فلسطين لكن هذه التوجهات ذات المصالح الضيقة من قبلهم وما امتلكوه من إمكانيات بقيادة النظام المالي العالمي واحتكار التكنولوجيا والمعرفة أدت لخلل كبير في توازن الاقتصاد العالمي وأوجدت فجوات كبيرة بين الدول أسهمت بوجود قرابة 700 مليون إنسان تحت خط الفقر في دول كانت تستعمرها هذه الدول الغربية ولم يتركوا لها مجالاً لتتطور وتستفيد من ثرواتها وفي الوقت الذي يتغنون فيه بحرية الإعلام وحقوق الإنسان لديهم ويعطون لأنفسهم الحق بانتقاد دول العالم نجد أنهم سقطوا في اختبار أزمة أوكرانيا من خلال ممارساتهم الغريبة ضد مواطنين روس يعيشون بدولهم فقد طردوهم من الجامعات ومن العمل بفرق موسيقية وعاقبوهم في كل المنظمات الرياضية التي تعتبر مستقلة عن أي عمل أو حدث سياسي بل منعت بعض الدول الأوروبية علاج مرضاهم بخلاف الدعوات والتحريض ضد المواطنين الروس بالخارج على وسائل التواصل دون منع لهذه المنشورات التي تعد مخالفة لقواعد النشر وفق أنظمة هذه الوسائل ولكن سمح بتمريرها وقاموا بحجز أموال وأصول رجال أعمال روس دون سند قانوني فمن سيثق بالاستثمار بدولهم بعد اليوم؟ فهذا المشهد العالمي اليوم أصبح أكثر خطورة بعد عدة ضربات تلقاها العالم في السنوات القليلة الماضية بداية من الأزمة الماليةالعالمية 2008 إلى جائحة كورونا 2020 التي ما زالت مستمرة وإن بوتيرة منخفضة بالانتشار إلى الحرب الروسية على أوكرانيا.
فهذه النكسات الدولية اقتصادياً وسياسياً بخلاف ما تعانيه مناطق جغرافية كثيرة بالعالم من حالة عدم استقرار كان للقوى الكبرى دور بها فجرت أزمة ثقة عالمية بعد هذه الحرب الروسية وكأنها الشعرة التي قصمت ظهر البعير فالعالم كان منتظراً لمزيد من الشروخ بالثقة بالمنظمات الدولية وبالعلاقات الدولية فصحيح أن هناك تكتلات إقليمية متماسكة إلى حد كبير لكن إذا نظرنا لواقع العالم كله فإن الثقة تمر بمرحلة زمنية خطيرة جداً سيكون لها مآلات وتبعات ستدوم آثارها لسنوات طويلة فالعقوبات التي أقرت على روسيا بتفاصيلها التي شملت كل ما هو روسي ستنظر لها العديد من الدول أنها جرس إنذار قد توجه ضدها إذا اختلفت لأي سبب مع دول الناتو ومن تحالف معهم ضد روسيا فهذا التكتل الجديد ينذر بتشكيل حلف قوي يستخدم هذه الأدوات الناعمة ضد أي دولة كالتجارة والإعلام وضرب الاقتصاد وعزل أي دولة عن العالم فهو سلاح لا يقل تأثيره من حيث الدمار عن الأسلحة العسكرية بما فيها أسلحة الردع الاستراتيجية فلن يحتاجوا لتحريك قواتهم العسكرية لشن الحروب فالعولمة وهيمنتهم على الاقتصاد العالمي وروافده تسمح لهم بمحاربة الدول عن بعد والوصول لأهدافهم سواء بتحييد هذه الدول أو إضعافها فلم يعد هناك عملياً ثقة بكل ما أنتجته العولمة من ترابط بين الدول فكيف تنضم لأنظمة تجارية ومالية وشبكات اتصال إنترنت وغيرها وتسمح بوصول صوتهم وإعلامهم إلى مجتمعك ثم تفاجأ بأن ما اعتقدت أنه حلقة وصل لك مع العالم سينقلب لسلاح ضدك؟
شرخ كبير ضرب جدار الثقة العالمي وإصلاحه لن يكون سريعاً وليس سهلاً وبثمن باهظ وسيكون له تداعيات برسم خارطة العالم الاقتصادية تحديداً بعد السياسية والجغرافية وحتى تتكشف نتائج الحرب الروسية وشكل النظام العالمي الجديد وتبلور الصورة النهائية عن طبيعة التحالف الحالي ضد روسيا وهل سيكون نواة لحلف دولي يضم أكثر من 60 بالمائة من اقتصاد العالم بما يعطيهم القوة لتحقيق مصالحهم على حساب غيرهم من الدول فإن العالم سيمر بمخاض عسير وأحداث عديدة وتقلبات اقتصادية قبل أن يعود الاستقرار والسلم الدولي ولكن تحت تأثير قوى جديدة وتحالف ولد مع هذه الحرب له دور جغرافي واسع وأدوات ذات تأثير بالغ مما يستدعي من بقية الدول أن تؤسس أيضاً تحالفاتها وتحمي مصالحها بما لديها من قوة وإمكانيات يمكنها أن توجد التوازن مع قدرات أي تحالف آخر.