د. ناصر بن علي الموسى
اهتمت المملكة العربية السعودية اهتماماً بالغاً بتنمية مواردها البشرية، وأولت الاستثمار في الإنسان عناية فائقة بحكم أن الإنسان هو العنصر الأساس في تحقيق التنمية المستدامة، والمحرك الرئيس لعجلة التحديث والتطوير، ثم إنه القاعدة الصلبة التي تقوم عليها النشاطات المختلفة.
ومنذ البدايات سارعت الدولة - أعزها الله - في افتتاح المدارس والمعاهد والمراكز والكليات والجامعات والمؤسسات للتعليم والتدريب والتأهيل، والتي طفقت تخرج الأجيال تلو الأجيال من الرجال والنساء الأكفاء المؤهلين في مختلف التخصصات، ولم تكتف بذلك، وإنما استحدثت برامج الابتعاث التي تمكن أبناء وبنات هذا الوطن من الالتحاق بأعرق الجامعات العالمية، ويعودون، وهم مسلحون بسلاح العلم والمعرفة.
وتأتي استراتيجية برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث التي أطلقها - مؤخراً - صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، رئيس لجنة برنامج تنمية القدرات البشرية لتؤسس لمرحلة جديدة في مجال الابتعاث.
ويلاحظ أن هذه الاستراتيجية أعدت بإتقان تام، وهي تقوم على ثلاث ركائز رئيسة تعنى بمدخلات الابتعاث ومخرجاته؛ فالركيزة الأولى تختص بإعداد وتأهيل المبتعثين والمبتعثات للبدء في التخطيط المبكر لرحلتهم العلمية والعملية في الجامعات العالمية حسب المجالات المختلفة، مع أهمية المواءمة بين إمكاناتهم وقدراتهم ورغباتهم وطموحاتهم من جهة، ومتطلبات تحقيق التنمية المستدامة في البلاد من جهة أخرى.
وأما الركيزة الثانية، فهي تعنى بتطوير مسارات وبرامج الابتعاث، وذلك بهدف تعزيز تنافسية المملكة محلياً وإقليمياً ودولياً حسب التخصصات التي يحتاجها سوق العمل على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي في أفضل المؤسسات التعليمية وفق التصنيفات العالمية، في حين تهتم الركيزة الثالثة بالمتابعة والرعاية اللاحقة للمبتعثين عبر تكثيف برامج الإرشاد، وتطوير الخدمات المقدمة لهم، وذلك بغرض تهيئتهم للانخراط في سوق العمل، أو تمكينهم من الالتحاق بالمؤسسات البحثية داخل المملكة وخارجها.
وينبغي التأكيد هنا على حقيقة مهمة مؤداها أن هذه الاستراتيجية تنطلق من الثوابت السبعة التالية:
أولاً: إن العمل في مجال الابتعاث - كغيره من المجالات الأخرى في المملكة - هو عمل مؤسسي تراكمي يقوم بعضه على بعض، ويسير في إطار منهجية واضحة تقعِّد لها وتؤطرها رؤية المملكة (2030)، وبرامجها التنفيذية، وأهدافها ومستهدفاتها الأساسية.
ثانياً: إن الابتعاث كان وما يزال يشكل رافداً مهماً من روافد تحقيق التنمية المستدامة.
ثالثاً: إن الابتعاث يتطور بشكل يواكب التطورات والتغيرات والتحولات التي تشهدها المملكة في كافة المجالات.
رابعاً: رغبة المملكة وقدرتها على الدخول في المنافسات والتصنيفات العالمية من أوسع أبوابها.
خامساً: زيادة تسريع وتيرة التحول نحو الاقتصاد القائم على المعرفة، بما ينسجم مع التطور السريع الذي تشهده البيئات الرقمية والتعاملات الإليكترونية في المملكة.
سادساً: التركيز - بشكل أكبر - على المجالات الحيوية الواعدة مثل: العلوم والمعارف الحديثة، والبحث والتطوير والابتكار، والعمل على توظيف معطيات الثورة الصناعية الرابعة، والاهتمام بالثقافة والسياحة والرياضة والترفيه والفنون، وذلك بغرض الإسهام في تنويع مصادر الدخل، واستكمالاً للمقومات الأساسية في الحضارة السعودية.
سابعاً: الاستمرار في الحفاظ - بشكل إيجابي - على التوازن في النسيج المجتمعي السعودي، بما يضمن تلاقح الأفكار والرؤى والتوجهات والاتجاهات والتطلعات والطموحات التي تسهم بفاعلية في رقي الوطن وتقدمه.
وتعد المملكة من أكثر دول العالم استفادة من برامج الابتعاث، وتاريخه فيها طويل جداً، فقد مر بالعديد من المراحل التي شهدت الكثير من التغيرات والتطورات، ويمكن تلخيص أبرز هذه المراحل - من وجهة نظري - في أربع مراحل رئيسة هي:
المرحلة الأولى، وهي مرحلة البدايات، وقد بدأت مع بدايات التعليم في عهد الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه -، وبالتحديد عام 1927 م، وكانت على نطاق ضيق جداً، وكانت وجهتها الرئيسة مصر وبعض الدول الأوروبية وأمريكا.
وأما المرحلة الثانية، فقد بدأت في السبعينات الميلادية، ويمكن تسميتها بمرحلة الابتعاث بالضرورة، حيث أخذت الجامعات والقطاعات الحكومية والأهلية والخيرية تبتعث الشباب والشابات من أجل سد احتياجاتها من الكوادر البشرية، بما يلبي متطلبات النهضة الجبارة في البلاد.
وجاءت المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التوسع والانفتاح، وقد شهدت تطوراً كبيراً في برامج الابتعاث التي يأتي في مقدمتها برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي الذي بدأ العمل به عام 2005 م، وتم تمديده عدة مرات، وهو يعد من أكبر برامج التبادل الحضاري في العالم.
وها هو الابتعاث - في مرحلته الرابعة - يدخل مرحلة جديدة بفكر جديد هي مرحلة الابتعاث بالانتقاء، وهي التي أسست لها وأطرتها استراتيجية برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث، كما تم إيضاح ذلك في التفاصيل المتعلقة بهذه الاستراتيجية.
وتشير الإحصاءات إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت وما زالت تأتي - وبفارق كبير جداً - في مقدمة الدول التي يتم الابتعاث إليها، ثم تليها بريطانيا وبعض الدول الأوروبية، مع التركيز على تنويع مصادر الابتعاث، بحيث أصبحت تشمل دولاً أخرى مثل: استراليا، ونيوزيلاندا، والصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وغيرها من الدول المتقدمة.
ويلعب المبتعثون والمبتعثات أدواراً مهمة في رحلتهم العلمية والعملية، فعلاوة على التحصيل الأكاديمي الذي يعد الهدف الرئيس للابتعاث، وإتقان لغة بلد الابتعاث الأصلية، ليس من خلال الكتب والمحاضرات فحسب، وإنما بالممارسة الفعلية من خلال الاندماج في المجتمع، فإن لهم أدواراً أخرى لا تقل أهمية، فهم سفراء المملكة في البلدان التي يدرسون بها، وعليه، فهم معنيون بنقل الصورة الحقيقية للمملكة، وهي الصورة النقية الوضاءة المشرقة التي تزينها تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة، وتتوجها المنجزات الحضارية العظيمة، وتؤطرها العادات والتقاليد والموروث الثقافي السعودي الأصيل، وذلك من أجل تغيير الصورة النمطية التي قد تكون سائدة لدى بعض الناس في بعض الدول، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن المملكة.
وهم ملزمون كذلك بالاستفادة من ثقافة الشعوب الأخرى، فالله - سبحانه وتعالى - قد حباهم عقولاً نيرة يميزون من خلالها بين الغث والسمين كي يأخذوا بما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام الصحيحة، ولا يتناقض مع المسلمات المجتمعية السعودية، وبذلك يستفيدون من تجارب وخبرات وثقافات الشعوب الأخرى ليتعلموا احترام الأنظمة والقوانين، واحترام الوقت والاستفادة منه بالشكل الصحيح، واحترام خصوصية الآخرين، وعدم التدخل في شؤونهم، بالإضافة إلى تعلم إدارة النقاش والحوار، وتقبل الرأي الآخر، وكذلك تقبل النقد البناء الذي يعد هو الأسلوب الأمثل للبناء، وفي النهاية يكون بإمكانهم الإسهام في توظيف السلوكيات الجيدة التي اكتسبوها في بناء المجتمع السعودي.
ويسجل التاريخ - بكل فخر واعتزاز - أن الطلاب والطالبات المبتعثين السعوديين يتفوقون دراسياً، ويبدعون فكرياً، ويتكيفون اجتماعياً، بل ويسجل لهم بعض الأعمال البطولية التي قد تصل إلى درجة التضحية بالنفس في سبيل إنقاذ حياة الآخرين كما تطالعنا بذلك - بين الفينة والأخرى - وسائل الإعلام القديمة والحديثة.
وأستميحك - أيها القارئ العزيز - عذراً في الإشارة إلى أن حديثي عن الابتعاث نابع من واقع تجربة، فأنا من الذين استفادوا من برامج الابتعاث في الفترة من عام 1977 حتى عام 1987م، حيث حصلت على درجة البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه من الولايات المتحدة، وقد هيأت هذه البلاد المباركة لي ولغيري كل أسباب النجاح أثناء دراستنا في الخارج.
وقد مررت أثناء البعثة بالعديد من التجارب، أذكر منها على سبيل المثال تجربتين باختصار شديد؛ فالتجربة الأولى هي أنني انتخبت مرتين لرئاسة اتحاد الطلبة الأجانب في التربية الخاصة بالجامعة التي كنت أدرس فيها، وفي مظلة هذا الاتحاد تلتقي ثقافات الشعوب من جميع القارات.
وأما التجربة الثانية، فهي أن المشرف على برنامج الدكتوراه الخاص بي، قد كلفني بالعمل منسقاً لبرنامج أطلقه في بداية الثمانينات الميلادية اسمه: (تطويع التقنية لصالح الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية)، وقد أسس هذا البرنامج وغيره من البرامج المعاصرة له لما يعرف الآن بالتقنية المساعدة للأشخاص ذوي الإعاقة.
ومن خلال دوريه التشريعي والرقابي، فقد أصدر مجلس الشورى عدداً من القرارات التي تهدف إلى تطوير برامج الابتعاث في المملكة.
وتجدر الإشارة إلى أن لجنة التعليم والبحث العلمي بالمجلس قد درست قبل أربع سنوات تقريباً مشروع نظام بعنوان: (البعثات الدراسية)، وكان هذا المشروع مقدماً عبر المادة الثالثة والعشرين من نظام المجلس، وذلك من سعادة عضو المجلس السابق الدكتورة / نورة بنت محمد المري، وعدد من أعضاء المجلس السابقين والحاليين، بالإضافة إلى كاتب هذه السطور، إلا أن هذا المشروع لم يحصل على الأغلبية اللازمة لملاءمة دراسته، ويعود السبب في ذلك - حسب رأي المجلس آنذاك - إلى أنه لم يكن هناك فراغ تشريعي في مجال الابتعاث، بحكم أن وزارة التعليم تعمل باستمرار على تحديث وتطوير اللوائح والتعليمات والتعاميم المتعلقة بالابتعاث.
وفي الختام، أدعو الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ بلادنا الحبيبة، وأن يحفظ عليها أمنها واستقرارها، وأن يحفظ لها قيادتها الحكيمة الواعية الرشيدة كي تواصل مسيرة الخير والعطاء والنماء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
** **
- رئيس لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس الشورى