قد يكون واضحاً لدى الجميع أن الانتماء مرتبط بالحاضنة. فالطفل حديث الولادة هو لصيق بأمه أولاً. ثم يتوسع ذلك الانتماء كلما ترعرع، ليشمل بعد الأم العائلة الصغرى ثم الكبرى ثم المجتمع ثم البشرية كلها.
ولا يجوز وصف الانتماء بأنه غريزة! فهناك من يتوقف نمو انتمائه عند مجتمعه فقط أو عائلته الكبرى أو الصغرى، وهؤلاء يقعون في الأنانية والحسد والعزلة وربما العنف. وهناك من يفقد انتمائه كلياً، وهو من يقع بالحقد والجريمة.
خلاصة القول: إن الانتماء ليس غريزة؛ وهو مرتبط بالحاضنة؛ وينمو حسب التربية والتجربة الحياتية! فإذا نشأ ابنك أنانياً أو حسودا أو مجرماً أو شاذاً ...الخ، لا يجوز لك بأي حال وضع اللوم كله عليه. صحيح أن 80% من التربية تقع على عاتق المجتمع، ولكن ليس كل أفراد المجتمع منحرفين! بل هناك في كل مجتمع نسبة ضئيلة منهم قياساً بتعداد السكان. ثم إن المجتمع يربي الفرد بواسطة المدرسة والجامعة والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والنشاط الثقافي وغيره، ولا يجوز لعاقل أن يتصور بأن هذه المؤسسات تعلّم الجريمة أو الشذوذ أو ما شابه.
وهناك ميزة أخرى للانتماء قد تكون أساساً وليس استثناء. وهي الارتباط برقي القيم الانسانية. فكلما ارتقت القيم الانسانية لدى الفرد، اتسعت دائرة انتمائه. وكلما صغرت دائرة الانتماء لدى أي فرد، تضاءلت قيمه حتى تجاه الدائرة التي تحتضنه. فالشعور بالانتماء للقبيلة مثلاً مطلوب، ولكنه يكون وبالاً على الآخرين إذا توققف عند هذا الحد!. وكذلك الاقتصار على الانتماء للقومية أو الدين أو العرق يصبح تعصباً وعنفاً إذا لم يتجاوز تلك الحدود.
أعجبتني فتوى أحد علماء الدين الأجلاء حيث قال: كل الذبح حلال لأن الله سبحانه قال «ولقد كرمنا بني آدم»؛ ولم يقل «كرمنا المسلمين»؛ أو المسيحيين؛ أو ميز عرقاً دون آخر!.
هذه الفتوى جعلتني استجدي التاريخ كي أجد معنى الإنتماء. فالإنسان البدائي لم يكن لديه قبائل أو قوميات أو أعراق أو ما شابه، إنما كان منتمياً للمجموعة «الانسانية الصغيرة»، التي تحميه وتسهل عليه الحصول على الغذاء وتعلمه كيف يستخدم عقله وكيف ينظم سلوكه الجماعي ليعيش.
إذن الانتماء نشأ انسانياً أولاً؛ أي أوسع ما يمكن؛ ولم يصغر ويتضاءل إلا بعد تكاثر البشر إلى درجة التزاحم و»النزاع» على الأرض؛ فظهر ما يسمى «قبيلة». أي أن التنازع بين البشر هو الذي قلص الانتماء. وتكرس ذلك التقلص بعد ظهور الملكية الخاصة. فظهر التكوين الهرمي للمجتمع، الذي أدى بدوره إلى تقسيم المجتمع إلى «أعراق عليا في قمة الهرم» وأخرى أدنى.
تنازع المجتمعات أدى إلى تقسيم البشر إلى أمم! وبظهور النظام الرأسمالي ظهر مفهوم «القومية»؛ كي يكون النزاع مشروعاً بين «القوميات الأرقى» التي يحق لها الاستحواذ على مقدرات «القوميات الأدنى» .. وهلم جراً.
وفي عصرنا الحالي؛ عصر التكنلوجيا المتقدمة والأجهزة الذكية؛ أصبح نجم مفاهيم الملكية الخاصة تخفت تدريجياً؛ وانتفض الانتماء الانساني من جديد ليكنس ما تركته آلاف السنين من مفاهيم تبيح التسلط والاستبداد والقهر.
** **
- عادل العلي