من يقرأ إنتاج الأديب محمد الشقحاء؛ لا بد أن يصل إلى حقيقة مهمة في مسيرته، ألا وهي أن حياته الأدبية كانت نتاجا بارزا لولعه بالكتابة والسرد. وهو ولع أكسب إنتاجه الأدبي سمات محددة لا تخطئها عين الدارس. وقد أدى هذا الولع بالكتابة إلى أن كتب بسريالية لا ساحل لها؛ حتى قارب في أساليبه أدباء السريالية العالميين، وإن اختلف عنهم في البواعث والمآلات. فإذا كان أدباء السريالية في العالم هم نتاج لمعاناتهم، ولظروف عصرهم؛ فإن الشقحاء يصدر في نهجه السريالي من واقع ذاتي غريزي وفطري، تسوقه إليه ميوله الخاصة، وإحساسه بواقعه ورؤيته في التعبير عنها، فهو مطبوع بأسلوبها، غير متأثر بتوجهها. فكان الكاتب فيما يكتبه يعبر عن الوعي الباطني لديه، الذي يظهر تارة على السطح، ويختفي تارات لا نرى منه إلا الهيجان النفسي، لا الواقع العقلاني.
وإذا كانت السريالية وسلفها الداداتية جاءت في أصلها ردة فعل على قيم الحضارة الغربية في مجملها؛ فإن سريالية الشقحاء لم تكن نتاج صدام حضاري، بقدر ما كانت نتاج هم كتابي، يضرب بأطنابه على مخيلة الكاتب وقلمه؛ فهدفه الذي يؤرقه هو أن يكتب وحسب.
وعندما يحاول الناقد أن يسبر إنتاج الشقحاء؛ فإنه سيلحظ بلا شك ذلك التنوع الكبير في سيرته القلمية؛ فهو تارة كاتب مقالة ، وتارة أخرى كاتب رواية. ونجده تارة كاتب قصة قصيرة، كما نجده أيضا كاتب قصة قصيرة جدا. بل إننا نجده شاعرا يفلت منه البيت والبيتان بين ثنايا القص. وما يربط هذا الإنجاز الأدبي المتنوع؛ هو عشق متناه للكتابة، أدى بنا إلى أن نجد في أغلب نصوصه انثيال عبارات وجمل، منفلتة عن سياقها، مفككة، تؤكد أنها اختلاجات الوعي الباطن التي تخرج على منطق العقل، والمعنى المتماسك. كما نجد ذلك التنوع في السرد داخل النص الواحد. فهو تارة يكتب الوصف السردي؛ المتداخل مع الخاطرة ، المشفوعة بصورة شعرية، ليعقبها مباشرة مقطع يشكل في وحدته قصة قصيرة جدا. كما أننا نجد الأقصوصة ذات الأسطر المعدودة، تحشر في ثنايا القصص القصيرة ذات الصفحات. والكاتب يعي هذا التداخل لديه؛ لهذا نجده يعنون بعض كتبه السردية بأنها مقالات، أوحكايات وقصص قصيرة.
كما نجد سمة أخرى ما لم نفهمها في هذا السياق السريالي؛ فإنها قد تنهي المشروع السردي للكاتب بكامله، ويتمثل ذلك في التنقل بين الضمائر في السياق الواحد؛ فتارة يأتي السرد بضمير الغائب، وتارة بضمير المخاطب، وتارة بضمير المتكلم. وهو تنوع قد يفضي إلى الخلط في نسبة الأفعال، ما لم ندرك كنهه في ما يشير إليه الكاتب.
ويظهر الاتجاه السريالي أيضا؛ في طيف واسع من الأدوات والوسائل والأساليب التي تنثال في ثنايا قصصه. فنجده يستخدم تقنية الحلم، كما يستخدم أسلوب التمازج بين الحلم والواقع؛ من خلال التداخل بين الواقع وما وراء الواقع، بل والتمازج بين عالم الأموات والأحياء؛ حتى نرى الميت يروى ما حوله، والمحتضر يصف الأحداث. كما نجد التكرار، والصور الصادمة المدهشة ، والمشاهد العجائبية. بل ونجد القصة السريالية التي تقوم بكاملها على عالم عجائبي، مثير للدهشة. كما يلحظ في أغلب كتابات الشقحاء ضعف العلاقة بين عنوان القصة وفحواها، وهو ما يمثل جانبا سرياليا أيضا؛ إذ إن هذا الانفصام بين العنوان وبين النص، يؤدي إلى تغريب النص، ومن ثم تأثير وقعه المدهش على القارئ.
وإذا كانت سمات الاتجاه السريالي ترد في أغلب نصوص الشقحاء القصصية؛ إلا أن هناك سمة بارزة، تطبع نصوص الكاتب جميعها بلا استثناء، ولعلها سمة أسلوبية سائدة لدى الكاتب فيما يكتبه بعامة؛ هذه السمة هي ما يطلق عليه في التصنيف الأسلوبي؛ الكتابة الآلية. ويأخذ السرياليون بهذه السمة في كتابتهم انطلاقا من توجههم نحو العفوية؛ والكتابة من خلال إملاء الذهن المباشر بدون أي رقابة فكرية يمارسها العقل عليه. فتأتي الكتابة السريالية في انثيالاتها وتداعيها، نتاجا للتداعي الحر غير الموجه. لهذا نجد لدى الكاتب تعددا في الشخصيات، جاء نتاجا للكتابة الآلية؛ التي لا ترشد دخول الشخصيات لمسرح الأحداث. فضلا عن تشعب الأحداث نفسها، وتتابعها بصور تولد تلقائيا شخصيات أخرى، مع أنها قد لا تكون ذات أهمية في تطوير القص. ومما يواكب هذا الاتجاه في حشد الأحداث، وتعدد الشخصيات؛ شيوع القطع أو البتر بصورة صادمة، بحيث يشعر القارئ بانتقالات مفاجئة بدون أي مسوغ.
وبعد، فإنه من خلال قراءتنا لكتابات الشقحاء السردية، يمكن القول بكل طمأنينة؛ إن الاتجاه السريالي بعجائبيته، وقبوله للكتابة الآلية، والتداعي الحر؛ هو خير اتجاه يستوعب كتابات القاص. ويمكن من خلال هذا الفهم توجيه كتاباته وجهة نقدية سليمة، والخروج منها بدراسة نقدية ذات قيمة تقبل تجاوزاته، وتقدر إبداعاته.
** **
- صالح إبراهيم الحسن