ربما لا أبالغ حين أقول: إن الألفاظ كائنات حيّة، ولها تاريخ وسِيَر ذاتية كالناس، ولها حظوظ متفاوتة في العيش، فهي تخضع لمراحل التعاقب في الحياة، فيكون لها نشأة وشباب وقوة وضعف، ومنها ما يُعمّر ويكتسب الديمومة، ومنها ما يصيبه الهرم فيموت، ولكن الألفاظ تختلف عن الكائنات الحية فميّتُها قد يعود إلى الحياة ولو حين!
وإن من ألفاظ العربية ما يملك مقومات الحياة والبقاء الأبدي فيعمّر ولا يهرم ولا يعرف الموت سبيلا إليه، لضروب من المناعة فيه، ومنها ما يفقد مقومات الحياة والبقاء فيموت ويفنى، فاللغة كائن حي نام خاضع لنواميس التطور والارتقاء والقوة والضعف، وليس فيها كسب دائم خال من الخسارة، فكل نمو في جانب يقابل بنوع من الخسائر في جانب، كما يقول جورجي زيدان، واللغة «تحاول دائما أن تصل إلى نوع من التوازن، فهي كما تقترض ألفاظا من اللغات الأخرى لتسعف حاجات المتكلمين بها نراها تستغني عن ألفاظ أخرى تختفي من الاستعمال» كما يقول د. حلمي خليل .
ومن الألفاظ ما يُعمّر فلا يموت، ولو مضى عليه آلاف السنين، لما فيه من ضروب المناعة الداخلية كقوة المعنى ودوامه، ورشاقة اللفظ وعذوبة جرسه، أو المناعة الخارجية، كألفاظ القرآن الكريم التي تكفل الله -عز وجل- بحفظها، وما صح من ألفاظ الحديث النبوي الشريف، وما حفظته الأجيال من شعر الشعراء الكبار الذين بقيت أشعارهم وكلماتها تجلجل في صدور الأجيال على الرغم من تباعد الأزمان، فلم تزل الأجيال تطرب لسماع (قِفا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ) و(هل غادرَ الشعراءُ من مُتَرّدمِ) و(ألا هُبّي بصَحْنِكِ فاصَبحينا) وتفهم معانيها على الرغم من مضيّ 1500 سنة على إنشادها في قلب جزيرة العرب.
أما ما دون ذلك من الحشو والحوشي والغريب فإنه معرّض للتبديل والهجر والموت والانقراض، إلا أن موته لا يكون موتًا أبديًّا؛ فكل لفظ مات واندثر يمكنه البعث لتدبّ فيه الحياة من جديد، وتجري به الألسنة بمعناه القديم أو بإلباسه معنى جديدا.
ونرى في العربية الفصحى ألفاظًا هُجرت في الاستعمال لأسباب عديدة فماتت، كالمِرباع، والنَّشِيطة، والفُضول، والحُلوان، والصَّرورة من الأسماء، وجَعْتَبَ، وحَنْجَدَ، وخَنَدَ، وعَذَطَ، من الأفعال. وموت الألفاظ لا يفرّق بين الأسماء والأفعال، وأما حروف المعاني فعصيّة عليه، ولم أجد شيئا مماتا منها. ففي الأسماء نجد أثر الموت في: أيام الأسبوع، وأسماء الشهور، ومفرد بعض المثنيات أو الجموع، ومكبّر بعض الأسماء المصغرة، وأسماء متفرقة زالت بزوال معانيها. وتفاوتت الأفعال في الموت، فثمة أفعال أميتت صيغها وتصريفاتها بالكامل، وثمة أفعال أميت المجرد منها دون المزيد، وأفعال أميتت بعض تصريفاتها، وأفعال مبنية للمجهول أميت المبني للمعلوم منها، وقد بسطت القول في الممات في بحثي: موت الألفاظ في اللغة العربية، وهو منشور في مجلة الجامعة الإسلامية، العدد 107 للعام 1418 - 1419هـ.
وتلك الألفاظ مع غيرها أميتت في العربية منذ وقت مبكر، وقد صادفها علماء العربية عند تدوين اللغة في عصور الاحتجاج مماتة ساقطة من الاستعمال، فوردت عنهم إشارات متفرقة في مصادر اللغة المتنوعة؛ تدلّ على موتها، ثم جاء بعدهم المولّدون فهجروا كثيرًا من الألفاظ، لابتعادهم عن منابع اللغة وضعف سلائقهم، ولما استجد من أمور الحضارة، «ولو ذهبنا إلى المعارضة بين ألفاظ الحياة العربية الأولى وما اختصت به من المعاني وبين هذه الحياة الحضرية ومستحدثاتها، لرأينا قسما كبيرا من اللغة يتنزل منها منزلة البقايا الأثرية» والمحنّطات، مما يعدّ من فضول الحاجات، كأسماء الإبل وصفاتها وأسماء الحشرات وأدوات البداوة، وما جاءت به اللغات المتعددة، من غريب وشاذ ومذموم وهو كثير مستفيض، وليس هو من الممات، ولكنه من المهجور الذي يوشك على الموت.
وتختفي بعض الألفاظ من الاستعمال فتموت لأسباب عديدة، تتفق في بعضها اللغات كلها، وتنفرد ببعضها لغات، وللعربية أسبابها الخاصة التي أدت إلى إماتة ألفاظ فيها مما حُكم بموته عند تدوين اللغة، ورَبَط علماء العربية القدماء في معرفتهم لفصاحة الكلمة وشيوعها في الاستعمال بين عنصرين هامّين من عناصر الكلمة، وهما:
1 - العنصر الصوتي.
2 - القيمة الدلالية.
وهذان العنصران في حقيقة الأمر يعطيان الحياة للكلمة أو يسلبانها إياها فتُترك ويُستغني عنها ثم تموت، وموت الكلمات نتيجةٌ مباشرة للعامل الصوتي أو عامل التطور اللغوي الذي لا تتوقّف عجلته عن الدوران، نتيجة لاستعمال اللغة وحركتها الدائمة.
ويقابل الممات والمهجور في العربية: المولد، وهو ما ولّدته العربُ بعد عصور الاحتجاج، وفيه قدرة اللغة على التكيّف مع زمانها واستجابتها لمعطيات العصر، ولولا التوليدُ في اللغة لشاختْ وهرمتْ وعجزتْ وتخلّفتْ عن مواكبة الحياة، أو يكثر فيها الاقتراض من لغات أجنبية.
وفي معاجمنا القديمة ألفاظ كثيرة هجرها الناس في كلامهم وأصيبت بالبِلَى، وفقدت قيمتها في الاستعمال المعاصر، وإنّ نظرة فاحصة على ما في (لسان العرب) لابن منظور تكشف لنا أنَّ ثلث ما فيه على الأقل يعاني سكرات الموت! ومن واجبات المعجميين وفقهاء اللغة العناية بالمولّد، واستقراء لغة الكُتّاب والمثقفين والحياة اليومية المعاصرة واستخراج ما فيها من فصيح الألفاظ وطريف المعاني المولّدة، ثم تنقّى وتصفّى وتغذّى بها المعاجم العربية الحيّة.
وينبغي لمعاجمنا اللغوية الحديثة أن تُعنى برصد المولّدات من الألفاظ والدلالات الجديدة، وهي كثيرة ولغة حياة، مثل: متحف، وخصخصة، واستنساخ، وغسيل أموال، وكبسولة، ومصداقية، وحمّى قلاعية، وعلمانية، وتعويم العملة، والحرب الباردة، وحرب الاستنزاف.. ولا خير في معجم لغويّ حديث يكتفي بما في المعاجم القديمة ويهمل المولّد..
وسيبقى المعجم مفتوحَ الأبواب أمام التوليد الإيجابي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وهذا مما يميز صناعة المعجم عن النحو والتصريف، ففيهما ثبات وفيه نمو دائم.
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي