1
استحقّ سعد البواردي مؤخراً التكريم بوسام الملك عبدالعزيز في الجنادرية عام 1435هـ، ومن مركز الشيخ حمد الجاسر، ومن أهالي شقراء، ثم من مجلس أوراف المبارك، لأنه:
* كان أديبا موهوباً منذ صغره، فإذا تكلّم أو تحركت يده على الورق أبدع الجميل من الشعر والنثر والخواطر ومن (الخط الجميل)، وكان من رواد تجديد الشعر في المملكة في بناء القصيدة ومضمونها، ومن رواد شعر التفعيلة.
* كان من رواد الصحافة في المملكة حين أصدر بمفرده مجلة الإشعاع عام 1375هـ، في حقبة صحافة الأفراد، مع صغر سنّه، وضيق ذات اليد، وقلّة الدعم، ومركزية العمل.
* كان من رواد القصة في المملكة، وفاز بجائزة جريدة البلاد عام 1364هـ، ثم كتب القصة بانتظام وأعطاها في مجلته (الإشعاع) مساحة متميزة، ثم أقدم في وقت مبكر على إصدار مجموعة قصصية بعنوان (شبح من فلسطين) القاهرة، مطبعة الكيلاني الصغير (قبل عام 1381هـ)، وهي خطوة مبكرة وجريئة.
* أسهم - في فترة متأخرة - في الكتابة النقدية في جريدة الجزيرة في صفحة (استراحة داخل صومعة الفكر)، بقراءات انطباعية حول دواوين الشعراء المعاصرين، وخاصة الشباب منهم، فنالوا منه التوجيه الأبوي الكريم والتسديد والتقويم.
2
تحدث البواردي عن أول تجربة قصصية له، فقال [في الربع الأخير من عام 1363هـ، وكنت حينها في مسقط رأسي شقراء أتصفح صفحات صحيفة البلاد السعودية استرعى انتباهي إعلان عن مسابقة شبابية على مستوى القصة القصيرة رصد لها ثلاث جوائز: 100 ريال للفائز الأول، و50 ريالا للفائز الثاني، و30 ريالا للفائز الثالث، مبلغ يسيل له لعاب من هو في مثل حالتي، فرصة مواتية لابد من اهتبالها دون انتظار، استعنت بأسلحة مستعارة وظفتها في قصة تحت عنوان (على قارعة الطريق)، تحكي قصة امرأة مشردة يطعم اليأس والبؤس أحشاءها، دون أن يكترث بوجعها أحد، هذا كل ما في الأمر، كدتُ أنسى المسابقة بعد مرور وقت لا أذكره، ولكنه ليس بالقصير، كادت المفاجأة تصعقني تهز أوصالي فزتُ بالجائزة الثالثة بثلاثين ريالا، يا الله يا للفرحة لم أكد أصدق نفسي، تخيلت أننا نحن الثلاثة فقط من تقدّم للمسابقة، مما أتاح لي فرصة الفوز..].
لم يكن الهدف من هذه المجموعة هدفاً أدبياً خالصاً، بل كان الهدف:
1- هدفا تبشيريا وتجريبياً 2 - وهدفاً اجتماعياً إصلاحياً.
فالهدف الأول يعني أنه حاول أن يدخل في تجربة من سلسلة تجارب أدبية وإبداعية متنوعة، فقد كتب الشعر، وكتب المقالة، وكتب الرسالة، وكتب الخاطرة، وكتب النقد، فلا مانع أن يجرب القصة، ويكتبها حتى ولو كان الهدف اجتماعياً، أو إصلاحياً، أو تربوياً، فهو يؤمن بالتجريب والمغامرة الكتابية فالتجارب والمحاولات الجديدة في الشعر والنثر هي أساس حركات التجديد وتطور الأدب.
كما كان يريد التبشير بالقصة وشدّ أزرها كجنس أدبي جديد على الساحة الأدبية المحلية، أو على الأقل لم تتحدد ملامحها بشكل واضح بعد تجاوز مرحلة المحاولات والبدايات، وسعى البواردي إلى محاكاة ونقل التجارب العربية الناضجة عبر نصوص قصصية تطبيقية، أنه يرى أن الممارسة التطبيقية أجدى نفعاً وأبعد أثراً من التنظير.
أما الهدف الثاني فقد وجد في الكتابة النثرية عموماً، والكتابة القصصية تحديداً وعاء غير محدود من الحركة يطول ويقصر ويرتفع ويهبط دون خشية الخروج على جادة الانضباط الشكلي كما في الشعر (المجلة العربية شوال1402هـ، ص82)، وبما أن المجتمع يمور ويموج بقضايا وعادات اجتماعية عديدة، وتحتاج إلى تشريح وتحليل وتفصيل، فالقصة والمقالة والخاطرة هي الأنسب للقيام بهذه الوظيفة.
ومع تقدّم سنّه رأيته يميل إلى الكتابة المركزة المكثفة كما في (التغريدات) حالياً، وكثيراً ما يكرر: خير الكلام ما قلّ ودلّ، وكما أراه في زاويته في: (المجلة العربية) بعنوان (كلمات: ما قلّ ودلّ)، في حين أن الكتابة القصصية تحتاج مزاجا نفسيا وكتابيا ممتدا زمنيا، ومدّة زمنية أطول، ومعايشة قد تمتد أسابيع للكتابة والصياغة والمراجعة.. وأراه - كتابيا - يكتب النص أو المقال أو الخاطرة للمرة الأولى ويقذفه إلى عالم القراء دون رغبة في المراجعة المتكررة الطويلة.
كان البواردي يحمل مشروعاً وهمّاً تجاه مجتمعه وأفراده في شعره، وقد رأى فيه د.عبدالله الحامد رأس المدرسة الاجتماعية في الشعر السعودي، ويبدو أن نشأته القاسية في بدايات حياته عاملٌ للاهتمام الموسّع بقضايا المستضعفين والمعوزين، في ظل دولة كريمة سخية كما كان يردّد.. وستكون القصة والنثر عموما أنسب وسيلة للتعبير، لما فيها من دقة التصوير، والعناية بالتفاصيل، وتحليل ووصف الأشخاص والأماكن، لتصل الصورة بكل دقة إلى القراء بجميع طبقاتهم ومستوياتهم، إن كانوا هم المعنيّون لبث الوعي فيهم، أو لتمتدّ إلى غيرهم ممن يمتلكون الحل.
فقصص البواردي اهتمت بهموم: الفقراء والمحتاجين، والمستضعفين وخاصة (المرأة)، التي ربما يرى أنها قطعة مهمّشة ومستضعفة، في مجتمع يغلب عليه أن يسيطر الرجل فيه، ولا يفكر إلا في المال والشهوات، ولم يقتصر على المجتمع المحلي القريب، بل اتسعت الدائرة لتشمل المجتمع العربي بكافة طبقاته الحاضرة والبادية، المتعلمة والأمية، فكانت بعض قصص المجموعة من فلسطين، ومن مصر، ومن لبنان.
ولم يظهر من بين قصص المجموعة قصصٌ عاطفية، تخاطب الغرائز أو تهدف للمتعة وحسب، بل كانت تهدف قصص المجموعة إلى أهداف اجتماعية وتربوية، كمقاومة مظاهر استغلال القوي للضعيف، والمشكلات المتعلقة بالزواج والمرأة، وإفرازات الطفرة المادية.
فلذا نجده في مجموعته قد تبنّى قضية الإنسان في كل مكان، فقد كان من جيل الأدباء الذين تفاعلوا مع حركات التحرر من الاستعمار في العالم كله، لذلك نجده ـ في معظم شعره ونثره ـ لا ينغلق على بيئته، بل كانت قضيّته هي قضية الإنسان في أي مكان على وجه الأرض فيحاول أن ينتقل بهذه الشخصيات إلى الإطار الإنساني، فتأخذ هذه الشخصيات شكل الأنموذج الإنساني العام.
3
بدأت الخيوط الأولى لاهتمامي المباشر بأدب البواردي منذ بدأت بإعداد رسالة الدكتوراه، وفي أثناء فترة جمع المادة الأدبية والعلمية للرسالة، وكان من بين مصادر الرسالة: (مجلة الإشعاع)، إذ نشر فيها عدد من شعراء منطقة القصيم قصائدهم، فقمتُ بتصوير كامل أعداد المجلة، وبعد أن فرغتُ إلى المجلة بهرتني ـ قياسا بعصرها ـ بوفرة موضوعاتها وموادها الأدبية، من شعر ومقالات وقصص، ودراسات، وتراجم، فقررتُ التفرغ مع بعض تلاميذي لدراسة موادها الأدبية والنقدية، وتأمل تجربتها، فوجدتُ أنها أدّت منجزا نقديا متناسبا مع إمكاناته الشخصية، وإمكانات العصر، كما أنها (احتفت) و(احتفظت) بمادة شعرية ونثرية لعدد من شعراء وأدباء المملكة، الذين أدرجوها فيما بعد في دواوينهم ومجموعاتهم، ثم استمرت صلتي بالمنجز الأدبي للبواردي، فقمتُ بالكتابة والإشراف على عدد من البحوث والدراسات عنه، أداء لواجبٍ - أراه ضروريا - تجاه أدبائنا وأعلامنا، منها:
• تقديم بحث في ملتقى نادي الرياض الأدبي الأول عام 1427هـ، عن الجهود المبكرة لمجلة الإشعاع في حركة النقد في المملكة.
• إنجاز بحث بعنوان: المشروع النقدي للمجلات السعودية، مجلة الإشعاع نموذجاً، منشور في مجلة: كلية الآداب بجامعة جنوب الوادي بمصر عدد:25 / 2008م.
• إنجاز بحث بعنوان: مجموعة (شبحٌ من فلسطين) القصصية، دراسة نقدية: منشور في مجلة كلية الآداب، جامعة الزقازيق عدد 64، يناير 2013م.
• الإشراف على رسالة ماجستير بعنوان: شعر سعد عبد الرحمن البواردي، دراسة فنية، الباحث / عبد الله علي الفهيدي، نوقشت في 12 / 1 / 1433هـ
• الإشراف على رسالة ماجستير بعنوان: سعد البواردي ناقداّ، الباحث / غانم سليمان الغانم، نوقشت في 6 / 7 / 1433هـ.
وما زالت هناك جوانب من المنجز الأدبي للأديب البواردي تنتظر عناية الدارسين والباحثين، من مثل: البواردي بين الشعر الفصيح والشعر العامي، فن الرسالة عند البواردي، الومضات الأدبية عند البواردي، فن القصة عند البواردي.
4
ظل الأستاذ الرائد سعد البواردي يتمتع بتوهج وطاقة متقدة نحو الكتابة الأدبية ــ وأرى أن من أهم عوامل هذا التوهج: أنه لا يزال يرى نفسه (تلميذا) (متعلما) (متلقيا)، يكرر في أكثر من مناسبة بأنه ليس لديه من الشهادات إلا شهادة ميلاده، وشهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة الابتدائية، ولأنه صادق مع نفسه ومع قرائه، فهو ـ كما يقول عن نفسه دائما ـ إنه تسلّل إلى عالم الأدب والنقد والصحافة من (الشباك)، وليت الأدباء الشباب تعلموا من سيرته وعصاميته وكفاحه، فسيرته الأدبية والشخصية حافلة، وتستحق الدراسة والتأمل وقدوة ونموذج للكفاح والعصامية.
بقي الدور المنتظر من الأندية الأدبية والمؤسسات الثقافية الحكومية والخاصة، في إعادة طباعة دواوينه الشعرية الأولى، وآثاره النثرية، وقصصه، ومقالاته.
** **
أ.د / إبراهيم عبدالرحمن المطوع - جامعة القصيم (سابقا)