محمد جبر الحربي
لقد لاحظت منذ البدايات غِنَى التجارب الأدبية العالمية والعربية، التي قرأت وشاهدت، بالطبيعة والألوان والتفاصيل والخيال، تلك العناية الفائقة بالضوء واللون، والقيمة الخاصة للأبيض والأسود، الشموس والظلال منذ البدايات إلى اليوم، وتجسيد ذلك نفسياً عبر القيم الروحية، بدءاً بملحمتي الإلياذة والأوديسة الإغريقيتين، وهما من أهم جذور الأدب الغربي، للشاعر الأعمى هوميروس، أو هذا ما نسبته إليه الأساطير منذ القرن الثامن قبل الميلاد تقريباً، وزوربا لنيكوس كازنتزاكيس حيث البحر والزرقة والاحتفال، ويانيس ريتسوس والتفاصيل، وقسطنطين كفافيس، إلى الادب الروسي بروائييه وشعرائه كبوشكين ويسينين ورسول حمزتوف وعوالم وشخصيات دوستويفسكي، إلى الأدب الغربي كلوركا وآرثر رامبو، وبودلير وأزهار الشر، غير متناسين وليام بليك، وقصيدة الأرض اليباب الملونة رغم الخراب لإيليوت:
نيسان أقسى الشهور،
يُخرج الليلكَ من الأرض المواتْ،
يمزج الذكرى بالرغبة،
يحركُ خاملَ الجذورِ بغيثِ الربيع.
وأدب أمريكا الجنوبية السحري بثرائه وتنوعه شعراً وسرداً.. إلى ناظم حكمت وطاغور وغيرهم من الرموز العالمية، ومن قبل الأدب العربي، تراثه وجديده.. وتنوعه الفريد.
لقد كان اللون حاضراً مهيمناً تتسيده الطبيعة والكائنات، والنساء بجمالهنَّ وأزيائهنَّ.. وحتى تفاصيلهنَّ الدقيقة.. نلحظ ذلك لدى الأعشى وامرئ القيس حتى إبداع شعراء العصرين الأموي والعباسي.. والأندلسي، ثم التفتنا إلى شعراء المهجر بشارة وإيليا، فنزار قباني، فالسياب، فدرويش وسعدي يوسف وفواز عيد وغيرهم كثير. أوليست مقدمة قصيدة أنشودة المطر مشهد احتفالي، ولوحةً ملونة تثير البهجة والحنين.. رغم الفقر والجوع والأنين..؟!
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتانِ راحَ ينأى عنهما القمرْ
عيناك حين تبسمانِ تورق الكرومْ
وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهَرْ
يرجُّه المجذافُ وهْناً ساعةَ السَّحَرْ
كأنما تنبضُ في غوريْهِما ، النّجومْ
وتغرقانِ في ضبابٍ من أسىً شفيفْ
كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقهُ المساءْ،
دفءُ الشتاءِ فيهِ وارتعاشةُ الخريفْ،
والموتُ، والميلادُ، والظلامُ، والضياءْ.
فتستفيقُ ملءَ روحي، رعشةُ البكاءْ
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانقُ السماءْ
كنشوةِ الطفلِ إِذا خافَ من القمرْ
كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيومْ
وقطرةً فقطرةً تذوب في المطرْ
وكركرَ الأطفالُ في عرائشِ الكرومْ،
ودغدغتْ صمتَ العصافيرِ على الشجرْ
أنشودةُ المطرْ
مطرْ..
مطرْ..
مطرْ.
في هذه اللوحة، وهذه القصيدة رغم الألم والحزن، يلتقي سحر الطبيعةِ بسحرِ الشعر، وجمال الشعر الحديث أنه يحيل الطبيعة الصامتة إلى مسرح لسرد حكايات الواقع، وآلام وآمال البشر.
هنا أنت تشعرُ باللوحة والمسرح والاحتفالية والألوان.
والسؤال هنا هو: إذا كان العالم ملوناً من حولنا، وكانت جميع الفنون متاحة، بل ومتصلة، لماذا لا تكون قصائدنا ملونة..؟!
لقد انحزت للون في شعري منذ البدايات، كذلك في عملي الصحفي كمحرر ومسؤول عن الثقافة والفنون ومستشار، ومؤسس ورئيس تحرير كما في المجلة الملونة بعناية «هنا الرياض» حيث قدمنا الصحافة عبر الفن..!
وقد سعيت طوال حياتي الأدبية والعملية إلى تكريس الجمال، ومن ذلك في الشعر أنني إذا كتبت عن الأرض خاطبت المرأة، وإذا خاطبت المرأة حضرت الأرض، وحضر الوطن:
يبدو ذلك جلياً في حضور «الطائف» في قصيدتي «طفولة قلب» ومعظم فصائدي الدرامية الطويلة:
وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَلَا يَعْلَمُونْ
بِأَنَّكِ بُسْتَانُ وَرْدٍ،
مُحِيطٌ مِنَ الْأُرْجُوَانِ،
الْبَنَفْسَجُ،
سَيْلٌ مِنَ الْأُقحوانْ.
وَأَنَّكِ تُفَّاحُ أرْضٍ كَمَا تَشْتَهِيهُ الطُّفُولَةُ وَالطَّيِّبُونْ.
سَلامٌ عَلَى الْأَرْضِ يُورِثُها مَنْ يَشَاءْ.
سَلامٌ عَلَى مَوْطِنِ الأَكْرَمِينْ.
لِتِلْكَ التِي بِالضَّبَابِ احْتَوَتْنِي صَغِيراً،
عَلَى السِّدْرِ والنَّبْقِ مِنِّي سَلامْ.
وَلِلْعَسَلِ المُنْتَقَى في الْجِبَالِ سَلامْ.
وَنَهْرُ الطُّفُولةِ ذَاكَ الْيَعُودُ إِذَا تَعْبُرِينْ.
وَإِذْ تُمْطِرينَ كَمَا يُمْطِرُ الطَّائِفُ الْمُسْتَرِيحُ
بِحُضْنِ الْجِبَالْ.
فَيَأْتِي الْجَمَالْ،
وَتَغْدُو الْحَيَاةُ بِنَا أُلْفَةُ الْفُلِّ وَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينْ.
وأنا أستغربُ عندما يفتقر شعر كثير من الشعراء هنا إلى الضوء واللون والحركة والصوت، عندما يفتقر للحياة..!
أليسوا أحفاد الأعشى الشاعر والمصور والمخرج الكبير..؟!:
ودِّعْ هريرةَ إنَّ الركْبَ مُرتَحِلُ
وَهَلْ تُطيقُ ودَاعَاً أيُّها الرجُـل
غَرَّاءُ فرْعاءُ مصقولٌ عوارضَها
تَمْشِي الهُويْنَى كما يمْشِي الوَجِي الوَحِلُ
كأنَّ مِشيَتَها.. مِنْ بيتِ جارتِها
مَرُّ السَّحَابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلٌ
تَسمَعُ للحَلْيِ وَسْوَاسَاً إذا انْصَرَفَت
كمَا استَعَانَ برِيـحٍ عِشْرِقٌ زَجِـلُ
إذا تقومُ يَضُـوعُ المِسْـكُ أصْوِرَة
والزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِنْ أردَانِها شَـمِلُ
ما رَوْضَةٌ مِنْ رياضِ الحَزْنِ مُعْشِبةٌ
خَضْرَاءُ جَادَ عليها مُسبِلٌ هَطِل
يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْها كَوْكَبٌ شَرِقٌ
مُؤزَّرٌ بعَـمِـيمِ النَّـبْـتِ مُكتَهِلُ
يَوْمَاً بأطْيبَ منْها نَشْرَ رائِحَةٍ
ولا بِأحْسَنَ مِنْها، إذْ دَنَا الأُصُلُ
فيا للألوان والروائح والإيقاعَ والموسيقى في هذه الأبيات الفريدة، بل يا للسينما لدى هذا الشاعر الجاهلي في كبد الصحراء..!
وشواهد الشعر الجاهلي لا حصر لها.. فالشعر كائن ملون، لونته الأرواح بالمشاعر والجراح والأفراح، لونته التجارب، ولونته العبقريات.