وتقترن بآلية التقمص آليةُ التوهم fantasy (انظر: المدخل إلى علم النفس الحديث 324، ومعجم مصطلحات التحليل النفسي 931)، إذْ تؤدي هذه الآلية وظيفة التمهيد والمساندة للتقمص، فالتوهم حيلة لاشعورية تخفف على النفس من ضغط الواقع الحقيقي، وتفتح بابا لأحلام اليقظة الجميلة لتعوضها عن المكبوت في اللاشعور، وهذا ما تخيلتْه الذات الشاكرية في مراحل وأحوال مختلفة من حياتها؛ فتَخيل صاحبُها في بدايته - أو خَيَّلَ له بعضُ أصدقائه - أنه جاحظ العصر، فراح يتقمص شخصيته وأسلوبه، ويبدو أنه أدرك سريعا الاختلاف العظيم بين الشخصيتين ولذا سرعان ما تحوّل إلى تقمصِ غيره بعد توهّمات بالمشابهة في بعض الصفات؛ فوجدناه يتقمص المتنبيَ من خلال ما ذُكِر مِن توهمه الاشتراك في الخذلان وفقدان الحنان، ووجدناه كذلك يتقمص المعرّي من خلال الاشتراك في القلق والعزلة؛ فالقلق الشاكري بَسَطَ لسانه في أشعاره كما بسط قلقُ المعري ولاأدريتُه اللسانَ في أشعاره خصوصا اللزوميات، والعزلة الشاكرية عبّرتْ عن نفسها في نصوصه النثرية كما عبّر المعري عن عزلته في نصوصه النثرية. وبلغ مِن تقمصه المعريَ أن انتقى من شعره أبياتا جعلها شعارات على أغلفة كتبه المؤلفة أو المحققة، بل يجعل عبارة المعري أحيانا عنوانا لكتابه كما فعل في «أباطيل وأسمار»، وهذا شأنه في كثير من نصوصه، فيَدُ بلاغته تتعصى غالبا ببلاغة غيره ممن يتقمصهم دون شعور.
وكثيرا ما يتعمّد استعمال الغريب فيُتبعه بتفسيره في سياق كلامه! خصوصا في مقامات الخصومة كما في برنامج طبقات فحول الشعراء متقمصا أسلوب المعري، والطريف أنه صرّح بتقليده المعري في هذا الأسلوب حين قال: « رحم الله أبا العلاء الذي فتح لنا باب الغريب في الكتابة !» (برنامج.. 114)، وكما في أباطيل وأسمار الذي خاصم فيه لويس عوض ودوائر الاستشراق (انظر مثلا ص 12، 13 إذْ يُغْرِب فيُتبِع الغريب بالشرح بين القوسين !).
واستعمال الغريب في سياق الخصومة لازمة أسلوبية له، وهذا يدل على أن المقصد الخفي من الإغراب هو التعالي على الخصم وإخضاعه بإشعاره بالدونية أمام استعراض العضلات اللغوية للكاتب! وهو من جهة أخرى يستحلب إعجاب القارئ المناصر والمتعاطف والمحايد، هكذا يفكر الكاتب كما يظهر من لسان حاله، لكنه لا يعي أنه استعراض سخيف؛ لأنه تقمصٌ خال من الاستقلال والإبداع، ولأنه يعبر عن مهارة شكلية لا طائل تحتها من فكر أو نقد.
ولو أنه استعمل الغريب وتركه دون شرح لربما وجدنا له وجها من العذر وقرأنا فيه ضربًا من الفنّ، أما أن يستعمل ألفاظا غريبة يتبرّع مستعملها نفسُه - يا للطرافة! - بشرحها فأيّ تفوّق أو تميز في هذا الأسلوب؟! ولكن إذا استحضرنا فكرة نرجسية الإغراب أمكننا أن نفسر نفسيا ما يصعب تفسيره فنيا، فالذات الشاكرية هنا تُغْرِب في الغريب؛ أي توظّف آلية الإغراب في استعمال الغريب، وذلك لتُحقّق ما ذُكِر من المقصد النفسي الخفي المزدوج؛ وهو إخضاع الخصم باستعراض عضلات وهمية لإيهامه أن تحتها فكرا نقديا قويا، واستجلاب إعجاب القارئ على اختلاف أنواعه (المناصِر والمتعاطف والمحايد) لإيهامه أيضا بامتلاك الكاتب قدرات أدبية وفكرية خارقة.
لكن التقمص الذي طغى على شاكر هو تقمصه الرافعيَ، ومع البون الشاسع بينهما في الأسلوب فقد اشتركا في عيب منهجي خطير هو الخطابية في مقام العلميّة؛ كما يبدو ذلك مثلا في كتاب إعجاز القرآن للرافعي ومقالات محمود شاكر عن التذوق.
فهاتان الآليتان (التوهّم والتقمص) هما من عمل اللاشعور للتعويض عن شعور النبذ والدونية المكبوتة، وكلاهما يوظَّفان لخدمة «الإغراب» في القول والسلوك.
والتوهم والتقمص يشيعان في مرحلة الطفولة، ولكن حاجات الطفل العاطفية إذا لم تُشبع فمن الطبيعي استمرار هذه الحيل اللاشعورية إلى مراحل متأخرة من عمره، ويؤيد هذا ما عُرِف من أخلاق محمود من السمة الطفولية في كثير من مواقفه كسرعة الغضب وسرعة الرضا، وقد أشار هو نفسُه إلى هذه الطفولة المستكنة في ذاته في مقاله المهم السابق الذكر «إلى أين؟» حين قال على لسان صديقه المحاور - والمقصود هو نفسه كما سبق ذكره -: «لمْ أرَ فيمن رأيتُ من الناس من هو أبعد منه مذهبا في الاحتراس والحذر، ومع ذلك أيضا فلو أنك رأيته في بعض ساعاته لظننتَ أنه رجل غُمْر يختدعه عن نفسه كل أحد، ولكنه ليس كذلك..» (جمهرة مقالاته 1-179).
ومن مظاهر الاضطرابات النفسية في الكلام: الميل إلى استعمال أساليب الأطفال والتشنج في الكلام (انظر علم اللغة النفسي لعبدالمجيد منصور 308) وهما صفتان ظاهرتان في أسلوب شاكر؛ أما التشنج فلا حاجة إلى الاستشهاد عليه فقد سبق له شواهد، وأما الأسلوب الطفولي فله مظاهر، منها: كثرة استعما ل ضمير المتحدث «أنا» دون حاجة يستدعيها سياق المقال أو المقام، خلافا للمعروف من أساليب الراشدين حين يبرز ضمير المتحدث للحصر أو للتأكيد أو لرفع اللبس ونحو ذلك من الأغراض الأسلوبية، وهذا ظاهر جدا في أسلوب شاكر لكل من قرأه، خصوصا في مقامات الخصومة، كما نجده مثلا في طبقات برنامج فحول الشعراء، كما في هذه العبارات: «أنا حين فعلتُ ذلك فعلتُه وأنا على ثقة وعلى بيّنة «58» وأنا قد وصفتُ عملي.. «59» وأنا لم أتحدث عن كتب الأدب «61» نعم أنا لم أثبت أرقام هذه الأخبار «61» وأنا بلا شك قد أطلتُ «106» وأنا على كل حال لستُ ناقدا لما كتب الدكتور علي جواد.. «107» وأنا لا أدري على وجه التحقيق.. «107» فأنا نقلت ما هو موجود «111» أنا لم أكتب تحقيقا.. «113» وأنا بالطبع لا أكتب بلغة أصحاب «المنهج العلمي» و»علم التحقيق» ولكني أكتب بلسان أمتي التي أنا منها.. «114» فلو أنا قرأت.. «115» فأنا لا أستطيع أن أجزم.. «115» ومواضع أخرى كثيرة على هذا النمط، فانظر في البرنامج مثلا: 127، 132، 140، 153، 155، 164، 165، 166، 168، 169، 175 .
ومن مظاهر الأسلوب الطفولي أيضا ضعف القدرة على التركيز فتتشتتْ الأفكار ويكثر التنقل من موضوع إلى آخر، وهذا ظاهر في كتابات شاكر النقدية كما في نمط صعب ورسالة في الطريق إلى ثقافتنا ومقالات «المتنبي ليتني ما عرفته»، وهذا أيضا من المظاهر الأسلوبية لمرضى الفصام (انظر علم اللغة النفسي لعبد المجيد منصور 307)، ولم يُعرف عن شاكر هذا المرض، ولكن هذا الأسلوب على أية حال ظاهر في كتاباته.
وقد وظّف هذا العيب الأسلوبي ليكون آلية من آليات نرجسية الإغراب اللغوي وذلك عن طريق إيهام القارئ بثراء المكتوب وجودته كما سيأتي ذكره قريبا.
وهناك آلية لا شعورية أخرى معروفة ومنتشرة في الحالات النرجسية وغيرها، وهي آلية الإسقاط، ولم تسلم منها الذات الشاكرية؛ فصاحبها كثير التذمر من فساد الآخرين بل فساد الحياة الثقافية بأسرها! وشواهد هذا كثيرة ومعروفة عند كل من قرأ شاكرا، وهو كذلك كثير التذمر من غرور الأساتذة الكبار وتعاليهم وفسادهم وسرقتهم!! وهو أيضا كثير الاتهام لخصومه ومخالفيه بالخداع والمراوغة والجهل!! والحق أن نصوص الرجل وسيرته كشفت -مع الأسف- تورطه في شيء غير قليل من هذه الصفات التي يرمي بها غيره.
ومن الطريف رميه لطه حسين في كثير من ردوده عليه بالثرثرة والفوضى والتهويل والمغالطة والتدليس والسرقة (انظر مثلا: المتنبي، تحت عنوان: لمحة من فساد حياتنا الثقافية 123، وجمهرة مقالاته 2/ 1121 – 1122، 1125) في حين أن في أسلوبه هو أيضا ثرثرة وفوضى ومراوغة وتدليسا وسرقة ! كما في مقالة « المتنبي ليتني ما عرفته « بأجزائها الثلاثة (انظر جمهرة مقالاته 2/ 1093 – 1189) تلك المقالات التي أنشأها ليجيب عن أسئلة عبدالعزيز الدسوقي واستشكالاته حول منهج شاكر في التذوق، فبدل أن يركز حديثه في صلب المشكلة النقدية راح يزبرق سرديات حول قصته مع المتنبي وطه حسين والشعر الجاهلي والانتحال والسرقة والجامعة وأمور شخصية أخرى، حتى إذا وصل القارئ - بعد صبر طويل على هذا الغثاء - إلى قضية التذوق وجد شاكرا يفيض في أمور سخيفة بعضها معلوم كاشتقاق لفظ التذوق والفرق بين الحقيقة والمجاز في لفظ التذوق! وبعضها كلام فارغ لا طائل تحته كحديثه عما سماه «الحلقة المُفْرَغة» التي تعمل فيها القُوى الخمس - وهي القدرة على النطق، والقدرة على البيان، والعقل، والقلب، والنفس - (انظر الجمهرة 2/ 1152 وما بعدها)، موهمًا أنه يبيّن قضية عميقة، والحق أنها مسألة تقليدية معروفة في علم النفس العام وعلم النفس اللغوي وهي جدلية التأثر والتأثير بين اللغة والفكر، وهو بهذا يدلّس على القارئ حين يوهمه - بأسلوبه في عرض المشكلة - أنه لم يطلع على الدراسات الحديثة التي عالجت هذه المشكلة وأنه يعرض عليه بنات أفكاره! وفيما سبق من نقاشات وتحليلات لما زعمه استدراكات على اللغويين أمثلة كثيرة على الفوضى المنهجية.
وقد وصمه سعيد الأفغاني - تصريحا وإشارة - في نقاشه معه حول علوية المتنبي بالغرور والمكابرة والعصبية والتبجّح والولوع بالإغراب والبناء على الخيالات والتهويل والمراوغة وعدم التدبر والتحريف (انظر المتنبي 541، 543، 546، 549، 570، 572)، وسعيد الأفغاني ليس ممن يتهور في الخصومة، بل يدقق النظر ويزن الكلام ويحرص على الإنصاف.
أما إسقاط السرقة فمن الطريف سرقته من صديقه العزيز - وهو مالك بن نبي! - حديثَه عن المفهوم الصحيح للثقافة وتحليلها ونقدها، فكل ما بَنى عليه «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» من مفاهيم أساسية ومنهج تحليل فهو مختلَس أو مقتبس من مالك بن نبي و مُغيَّرةٌ عباراتُه، أي أنه داخل فيما سميتُه من قبل «السرقة العميقة»، كحديثه عن أن الثقافة سلوك تترابط فيه العقيدة والعمل معًا وليست معلومات ولا قواعد عقلية مجردة (انظر رسالة في الطريق إلى ثقافتنا المطبوعة مع المتنبي 32)، فهو ما قرره مالك في كتاب مشكلة الثقافة وغيره، وحديثِه عن اختفاء الأهواء الثقافية خلف الزينة اللغوية (رسالة في الطريق.. 29) فهو نفسه ما أفاض فيه مالك بن نبي تحت اسم مرض «الشِعْريّة» التي تخفي العيوب والأمراض والقبائح بالزينة اللغوية والصنعة البلاغية، وحديثِه عن الأفكار الفارغة المُمِيتة التي لها رنين وفتنة ولكنها مليئة بكل وهم وإيهام وزهو فارغ (رسالة.. 80) فهو أيضا ما تحدث عنه ابن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي تحت عنوان «الأفكار المُمِيتة»، وهي الأفكار المستعارة من الخارج المضادة لمقاصد الثقافة، مقابل «الأفكار الميّتة» وهي الأفكار البالية الموروثة المخالفة أيضا لمقاصد الثقافة الأصلية، وكحديثه عن أن الفساد الثقافي المعاصر لم يحدث إلا بعد «التصادم الصامت» المخيف بين ثقافتنا والثقافة الغربية الحديثة (رسالة.. 34) فهو كذلك ما سماه ابن نبي في كتاب الصراع الفكري في البلاد المستعمَرة: «اللغة الصامتة»، وجَعَله من خصائص لغة الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وسيأتي مزيد بيان لهذه السرقة حين أتناول مظاهر النرجسية في «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا».
فهذه ثلاث آليات كلها من نتائج الكبت في اللاشعور، ولكن الفرق أن التوهم والتقمص آليتان للتعويض عن شعور النبذ والدونية، والإسقاط آلية للتنفيس عن شعور بالذنب ينطوي على ملامة داخلية من الأنا الأعلى نحوَ الأنا حسب مذهب التحليل النفسي (انظر معجم مصطلحات التحليل النفسي 489)، أي أن الإسقاط هو حل من حلول اللاشعور للتخلص من حالة الانشطار والصراع الداخلي بين الضمير والأنا، كما أنه من وجهٍ آخر يتضمن خداعا للذات بتحسين صورتها أمام نفسها بأنها طاهرة من تلك العيوب التي يتنجس بها الآخرون؛ ومن هنا وجدنا الذات الشاكرية كثيرة الشكوى من فساد الأمة وفساد الحياة الثقافية فسادا كبيرا، ومن فساد الأساتذة الكبار الذين علّموا الجيل الفوضى المنهجية والسرقة الأدبية والثرثرة والمراوغة والخداع، دون أن تشعر هذه الذات أنها - بقطع النظر عن مدى صدق هذه الصفات على الآخرين - تمارس بهذا إسقاطا تحاول به التخفف من ضغط ملامة الضمير الآمِر بالتخلص مِن عيوبٍ مِن جنس هذه العيوب المقصاة والمكبوتة هناك في المجال المظلم في اللاشعور، على تفاوت في النوع والكم.
وأحيانا قد يرتدّ هذا الإسقاط إلى الداخل، وهو من أدق خفايا الصراعات النفسية - وما أكثر خفايا هذه النفوس التي نحملها ونجهل عنها الكثير! - فيتحول الإسقاط من لوم الآخرين إلى إدانة الذات نفسها وعقوبتها، بل الإفراط في عقوبتها، وكأنه انتقام من الذات التي صرفت الحب والتقدير إلى الموضوعات الخارجية التي لا تستحق ذلك، فكان لابد من عقابها، وفي هذا إرضاء للأنا العليا (الضمير) بعملية تطهير في ظاهرها، ولكنها تنطوي على مخادعة للضمير شديدة الخفاء؛ إذْ توظَّف هذه العملية من وجه آخر للتسويق للذات! فهي عملية لاشعورية مزدوجة؛ تطهير داخلي أمام الضمير وتسويق خارجي لكسب ثناء الآخرين! وهنا تحضر مرة أخرى - كما في كل مرة! - نرجسيةُ الإغراب التي تفسر لنا ما يصعب تفسيره، فقد تَعجّب أصدقاء شاكر وخصومه من شدته في نقد خطئه، وفسرها أصدقاؤه ومحبوه بأنها فضيلة له يتجلى فيها إنصافه ونزاهته وتعاليه على حظ النفس، ولكنْ هذا انخداعٌ بالظاهر، أما حقيقة الأمر فشيء آخر؛ فالفضيلة دائما وسط بين رذيلتين كما يقال، ولا يعقل أن تكون الذات العادية مدفوعة بغريزة الإنصاف والعدالة حين تُفْرِط في عقاب نفسها، فكيف بالذات النرجسية حين تفرط في إيذاء نفسها وعقابها؟! فحين يبين شاكر خطأ له في ضبط كلمة وتفسيرها بقوله: «وقد أسأتُ أشدّ الإساءة في الحاشية.. وأسأت الاستدلال..» (جمهرة نسب قريش 539)، أو يقول: «وهذا خطأ فاحش لا أدري كيف وقعتُ فيه؟» (السابق 547) فهذا أقْربُ إلى أن يكون ضربا من جنون الصدق والعدالة من أن يكون إنصافا وشجاعة أدبية! وكذلك حين يكتب في حاشية طبقات فحول الشعراء في تصويب خطأ في تفسير كلمة: «كنتُ أخطأت بيان ذلك في طبعتي السالفة من الطبقات، فجاءتني من الأرض المقدسة الطاهرة التي دنستها يهود رسالة رقيقة من م.ي.
قسطر فدلني على الصواب الذي ذكرته آنفا، فمن أمانة العلم أذكره شاكرا كارها لهذا الذكر» (2/ 395)، فهذا توبيخ للذات في طيه تسويقٌ لها، إذْ لا ترضى الذات النرجسية بأن يعاقبها غيرُها لأن في هذا إذلالا لكبريائها، لكنها ترضى بأن تعاقب نفسها بنفسها لتكسب بهذا العمل ثناء الآخرين وإعجابهم، ومن هنا تعوِّض في اللحظة نفسها بباطن سلوكها ما خسرتْه بظاهر عملها! وأرى في هذا النقد الذاتي وأمثاله حَزْميّةً تقمصتْها الذات الشاكرية، ومحمود شاكر وأخوه معجبان بالمذهب الظاهري عموما والمسلك الحزْميّ خصوصا، وابن حزم هو أبو الإغراب في مذهبه وسيرته وأخلاقه، ففيما يتعلق بالنقد الذاتي خصوصا نجده في باب من أبواب المحلّى يعقد مسألة في نصاب زكاة الذهب، فيورد قولا احتجّ أصحابه بحديث مروي عن عليّ- رضي الله عنه- من طريق جرير بن حازم، ثم يكرّ عليه بالتخطئة وتضعيف الحديث وإبطاله، ثم يرجع بعد ثلاث صفحات عن هذا القول مصحِّحًا الحديث ومصوّبًا القول الذي خطّأه معنّفا نفسه بقوله: «ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير بن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه، وأن الاعتلال فيه بأن عاصم بن ضمرة أو أبا إسحاق أو جريرا خلط إسناد الحارث بإرسال عاصم هو الظن الباطل الذي لا يجوز « (المحلى 6/ 70، 74)، والذي لا يعرف ابن حزم وإغراباته وشذوذاته يتعجب من هذا الموقف ويستعصي على فهمه؛ فما دام قد بان له خطؤه ورجع عنه فلمَ يتركه مكتوبا - وهو في رأيه الظن الباطل الذي لا يجوز - بجانب الصواب الذي تبيّن له؟! إنه تسويق الذات عن طريق إخضاعها للعقاب العلني! وقد انطلى هذا المسلك الحزْمي على الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- فكتب في الحاشية: «لله درّ أبي محمد بن حزم، رأى خطأه فسارع إلى تداركه وحكم بأنه الظن الباطل الذي لا يجوز، وهذا شأن المنصفين من أتباع السنة الكريمة وأنصار الحق وهم الهداة القادة، وقليلٌ ما هم»! ولابن حزم نرجسية وعقده النفسية الخاصة التي أراها جديرة بالكتابة عنها لأنها ستفسر خفايا إغراباته العجيبة وشذوذاته الشهيرة في الفكر والسلوك.
ومما ذُكِر عن الطبيعة المزدوجة لهذا الضرب الغريب في نقد الذات المُفْرِط في عقوبتها يتبين أنه يتضمن ما يمكن تسميته «تضادّ نرجسي»؛ فهو يدل في الظاهر على الذم والعقوبة لكنه يستجلب في الباطن المدح والثناء، أي أنه يقوم في المجال النفسي بوظيفة كوظيفة التورية في البلاغة.
ولعل لِتقمصِ الذات الشاكرية للمعري أثرا في ترسيخ هذا الأسلوب، فالمعري الذي يُطامِن من ذاته ويقمعها في قوله: دُعِيتُ أبا العلاء وذاك مَيْنٌ ولكنّ الصحيح أبو النزولِ هو نفسه الذي يتعالى ويشمخ في قوله: وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ لآتٍ بما لم تستطعْهُ الأوائلُ ونجد الذات الشاكرية تستعمل أيضا هذا التضاد النرجسي في سياق الحديث عن الشهرة المفاجئة التي كسبها شاكر عقب ظهور كتابه «المتنبي»، فيسمي تلك الشهرة التي سعى لها سعيا: «الصيت الكاذب»! (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا 16) مع أنه يشكو بعد ذلك مباشرة مرارة خذلان النقاد لمنهجه! («وهذا خلان كبير، غفر الله لنا ولهم» 17)، وسأعرض لهذا وغيره من مظاهر النرجسية في تلك الرسالة لاحقًا.
كما أنّ هذا الضرب الغريب في نقد الذات المُفْرِط في عقوبتها هو من وجهٍ آخر شكلٌ من أشكال السخرية المتعددة الوظائف ؛ ففيها سخرية الأنا من الضمير (الأنا الأعلى) لأن فيها خداعا له بإرضائه بتطهير ظاهري، وفيها سخرية الذات من الآخر سواء كان مُحبًا أم كارهًا، لانطوائها أيضا على الإيهام والمخادعة، والمخادع هو ساخر على وجه من الوجه.
ولهذا انعكس هذا الإفراط على السخرية الموجَّهة للآخرين ابتداء، فصارت المبالغة – بل الغثاثة في أحيان كثيرة! - من أبرز صفاتها، لأنه يتكلف في صياغة النكتة وتصويرها وكأنه يشرح نصا في مخطوطة! فتفقد تلقائيتها وأهم عنصر من عناصرها وهو المفاجأة، كما في سخريته من لويس عوض بقوله: «لم يخامرني شك في أن كاتب هذا داخل فيما يسميه الأطباء: «مانيا هلُّو سيناتوريا»، وهو الهذيان والوسوسة واختلاط العقل» (أباطيل وأسمار 9)؛ فهذه نكتة باردة معطَّلة الوظيفة لأنها مفتقرة إلى شرح، والقارئ حين ينصرف عن النكتة إلى قراءة تَدَخُّلٍ مِن قائلها بشرح ألفاظها الغريبة فإنه لا يفرغ من قراءة الشرح إلا وقد انخفض لديه التحفّز اللازم لتلقي النكتة، فلا يتفاعل معها بعد ذلك كما لو استقبلها واضحة الألفاظ مكتفية بنفسها.
نعم قد تتصف النكتة بالغموض الإيجابي وهو غموض تركيبها أو علاقاتها الداخلية الذي يغري المتلقي بحلّه فسرعان ما يستجيب لها بالضحك، خلافا لغرابة اللفظ التي هي أمر أجنبي عن بنية النكتة.
ولم تَخفَ هذه الغثاثة في سخرية شاكر عن كاتب ذكي كالعقاد، فقد حكى محمود الطناحي (انظر..) عنه أنه قال حين سُئل عنها: over، والطريف أن الطناحي فهم من إجابة العقاد أنه يقصد الإشادة بأسلوب شاكر الساخر وأن حظه من السخرية وافر!
والخلاصة أن هذه الآليات النفسية: تغيير ظرف الصراع، والتلفيق، والتسامي، والكبت بكل نتائجه وآلياته الخاصة من توهُّم وتقمص وإسقاط وإفراط في نقد الذات (تضاد نرجسي) وسخرية فائضة عن الحدّ؛ كلها آليات تعمل في إطار نرجسية الإغراب، أي الإغراب العام الشامل للفكر والسلوك، ومن ثم فهي تعمل أيضا في نرجسية الإغراب اللغوي الخاص بأسلوب الذات الشاكرية في مجال الكتابة النقدية وتحقيق المخطوطات، ولكنْ مع فروق ظهرتْ من خلال التحليل والنقد السابق للاستدراكات التي دونها شاكر على طبقات فحول الشعراء.
وقد أّجلْتُ ذكرها إلى هنا رغبةً في أنْ يلاحظ القارئ معي شيئا فشيئا هذه الآليات الخاصة من خلال شواهدها الماثلة أمامه، وليستنبط معي كيفية عملها وأداء وظائفها في سياق نرجسية الإغراب اللغوي الخاص المتكئ على الإغراب العام فكرًا وسلوكا، وله بطبيعة الحال أن يخالفني فيما شاء، ولكنه لا يخالف حينئذ إلا بعد أن يكون قد مشى معي خطوة بخطوة وعرف وجهة نظري ورأى مَدْخَلي ومَخْرَجي، وفي هذا وَثاقةٌ لأمره حين يخالف أو يوافق.
** **
- د. خالد الغامدي