شمالًا، وتحديدًا من شريط حدود بلادنا الشمالية، يتدفق - عند المواسم بدنة - الوادي الأسطى، على المدينة (عرعر)، على ضِفاف الوادي تنبت حكايا القوم؛ يجلس السُّمّار يَصطَلُون ليل الشّتاء المقرفص، مصطلين نبات العوسج، والعرعر، والسّرح، وآكام السّدر، وإذا ما هبّهبَتْ نَسَائِم هبُوبِ الشَّمال تَحلّقُوا مُتهَادِينَ مَجْرُور الرّبابَة! والْجَدْي يَرقُبُ طَرَفَهُ شَمَالًا؛ أحاديث أبنائه..
هناك كان موعدنا مع ضيف العدد، (محمد فلاج العنزي) الكاتب والروائي السعودي مؤلف: رواية (هروب فتاة) عن دارة طويق 2010، وعن الدار نفسها روايته الثانية (دمى بلا أجنحة) 2012 م. بعدها وفي عام 2014 أعاد طباعتها ونشرها في مصر / القاهرة لدى (دار العلوم العربية للطباعة والنشر والتوزيع).
* (العبقريات الخمس) للعبقري العقاد أعادت صناعة عقلي!
استهل الحديث الكاتب الروائي (محمد فلاج لعنزي) بقوله: لم تكن الفضاءات الفكرية والأدبية منها لها متسع في عالمنا العربي والخليجي خاصة قبل خمسة وعشرون عاماً كما هو حاصل الآن وبعد الانفتاح على مختلف جميع الثقافات العالمية بعيداً عن مقص الرقيب.
كان أول كتاب قرأته بذلك بالضرورة الجنوح إلى الكُتب الأدبية تحديدياً لأن ذاكرتنا مليئة بالكتب المتنوّعة خاصة الدينية والاجتماعية منها لما يشكله المحيط الاجتماعي بتحديد الكثير مسار انتشار الكُتب وقد يكون عامل المكان والثقافة الأسرية لها دور كبير جداً بعدم وجود كتب أدبية وأخص بذلك الروايات والفلسفة وبعضاً من كتب علم الاجتماع ذائعة الصيت وهي من الكتب غير محبب وجودها بالمنزل أو المكتبات ويستثنى منها كل ما يتعلق بالدين والتربية وإن كان جنساً أدبياً شعراً وقصص لا تخرج عن مواقف تاريخية.
وأضاف: أذكر في بداية أول وظيفة كُنت جينها في عمر العشرين سنة وجدت مكتبة صغيرة تحتوي على بعض الكتب الأدبية وقع نظري على العديد منها إلا أن موظفاً سودانياً قائماً على المكتبة قال: خذ هذا الكتاب ليس استعارة، بل للقراءة في مكان العمل فقط لقد أحدث الفرق الكبير الذي أوصلني لحد الإشباع والاكتفاء ولو كان يتحدّث عن مطلع النور وما أنا إلا كذرةً سابحة في كونه الكبير مع مجموعة من الكواكب والتي تُضيء السماء كالمصابيح.
لقد صنع مني شخصاً أعُيد خلق عقله من جديد وأنبت في مشاعرة عشق الكلمة وأدخلهُ في تفاصيل الصورة مهما وأن تعاقبت عليها الأيام لتبقى دون أن تتأثر في عوامل التعرية التاريخية. إنها المجموعة الكاملة وبكتاب واحد يتجاوز عدد صفحاتهِ 1200 (العبقريات الخمس) للعبقري للكاتب والأديب عباس العقاد. من هُنا عُدت لأقف من جديد باتجاه عالم القراءة وفي حينهِ يعد من أصعب ما جلبهُ لي القدر.
لم أتوقع أنني استطعت الانتهاء من الكتاب بأقل من أسبوع حتى عُدت من جديد لقراءته بتأن جداً ولساعات طويلة. من هُنا رأت عيني الثالثة عقلاً ما زال صغيراً وفي بداياته الأمية التي لا تعدو أكثر من معرفة تفاصيل مقالة كُنت اعتبرها غذاء عقليا وروحيا وبشكل يومي وهي أشبه ما تكون بالوجبات السريعة عما وجدتهُ.
وزاد: بعد ذلك راجعت طبيب العيون مباشرة لعلي ارتديت النظارة وكاد أن يهلك بصري! (دخلت في أدق تفاصيل الكلمة لمعرفة ماذا أريد فكانت وكُنت معها على مسرح موسيقى الصخب وعلو ضجيجها ولون الصورة ورائحة الحبر وانغماس فكري في لذة تُدعى لذة الإخصاب وإنها لأعظم أداة يستخدمها الإنسان عبر تاريخه).
وقفت أمام باب الشمس المشرقة تارةً متحدي سخطها اللاهب وتارة أحاول التهام الريح العاتية برئتين صغيرتين يمران عبر قلبي الصغير، أتعبني ذلك فوجدت السلوى بين أكمام الكُتب لأعيد لفافات أمي وأرتب من جديد مهدي الأول لتكون من هنا نقطة البداية.
* دفعت ثمن بؤساء هوغو
وأوضح الروائي العنزي في معرض إجابته، عن سؤال (الكتاب الأول) الذي دفع ثمنه: لا أستطيع تذكّر أول كتاب اشتريتهُ، ولكن أستطيع تحديد أول كتاب تأثرت بهِ أدبياً على نسج الرواية العالمية فكانت البداية مع (البؤساء) لفكتور هوغو. بعدما بحث عن أفضل الروايات العالمية. أصابت المقتل في دخولي إلى عالم البؤس كيف وأنا ابن علم الاجتماع وخطواتي لم تنثر عليها الريح من شذرات الرمل الذهبية خطى ما زالت في صحراء البادية وهي تنزف من جروح القيظ اللاهب وجفاف شفاف لهاتي بينما تلعق من ماء الهواء الجاف حتى أقع بين آتون أعظم الروايات العالمية.
قلت: إن الله سيهديني ويهديني من الشدة إلى القسوة لأكون أسيراً لكتّاب وكٌتب لا تسمح لنا بالرفاهية مستقبلاً. والله يُبحني وهذا الحُب أنار ظلمة الليل الأولى والأخيرة ولو كانت في رابعة النهار. رواية (البؤساء) مضى عليها (100) عام ونيف، وما زالت تتربّع على عرش الرواية العالمية. إنها لا تموت كذلك يعيش الكاتب في مؤلفاتهِ إن كان يستحق الحياة. هذا الكتاب مد يدي نحو أرفف كانت أطول من جسمي النحيل في حينها لتسلّق عتبات كُتب عُلّقت على ناصية التاريخ مثل المجموعة القصصية الكاملة التي تُرجمة عن الإبداع الفرنسي منقطع النظير لطه حسين وهي تتجاوز (12) مجلّدا. أضف إلى ذلك تعتبر ضمن أجمل ما أتمنى من كل قارئ بأن يزيد من معينهِ كتاب سيرة (الأيام) طه حسين، هُنا حكاية أخرى لشخصية تُذيب تفاصيل معرفة الفارق بين الأعمى والبصير وسبر أغوار أحداث من الأيام وكل يوم لهُ حكاية مختلفة.
ذلك الكتاب الذي تمنيت بأن أجمع باقي أوراقه التالفة لتبقى مع أبد الدهر.
فالقراءة بالنسبة للكاتب تشبه الحبر في أوردية الأقلام.
واستعاد الروائي محمد الفلاح تجربة الاستعارة الأولى التي قضى بعدها مطيلًا المكوث في عوالم الفلسفة وذلك في مكتبة معهد الإدارة فقال: كانت الاستعارة الأولى من نصيب مكتبة معهد الإدارة العامة، وكُنت أتمنى الحصول عليه (أعلام علماء الاجتماع) تلت بعد ذلك إقامة شبه يومية! أقضي معظم وقتي للبحث في عيون الأدب العربي، والعالمي، والقائمة تطول في علم «الفلسفة» تحديداً.
* (هروب فتاة) نتيجة زواج رجل ستيني
وتطرق ضيفنا، للأسباب والدواعي التي قادته لولوج تجربة التأليف في إصداره الأول، والعلاقة - لاحقًا - بالإصدارات ودور النشر فقال: بداية التجربة منذ عام 2008، في صبيحة أحد أيام الأحاد في تمام الساعة (8) كُنت اقرأ في إحدى الصحف عن زواج فتاة لم تبلغ الحادية عشرة! تم تزويجها لرجل يبلغ (60) عاماً. عُدت للبحث من جديد، والاهتمام في (قضية اجتماعية) منتشرة في (الوطن العربي) لمعرفة الأسباب والدوافع؟! فنتج عنها كتابة أول رواية لي بعنوان: (هروب فتاة) لأقدمها كمساهمة من كاتب مبتدئ لمعالجة تلك القضية المؤلمة، التي لم يصنع لها الفرح في ذاكرة نُصب سعادته لتسمع أنين الألم، وموت الطفولة بين أحضان الجياع. كانت نهاية عام 2010م.
تقديم مؤلف جديد يُراعي فيه أدق تفاصيل الحقيقة ولكي تفرح بمولدهِ الملائكة حين تطلق جناحيهِ المبللتين بالماء ليذره في أرض القارئ، من هُنا تقف لتدعو الله له النجاح عدى ذلك ليس لك من الأمر من شيء.
الحُزن قد يحفّز للكتابة لتكون وجهاً مشرق للحياة الآتية. إننا نحن الكُتّاب أن جاز لي ذلك وان استسمح من كل أديب أن يضمني لقافلته لعل نقف في نهاية المحطة ونحن نطوي لهم بعد المسافات وتلك هي رسالة كل كاتب يحمل في روحه أمانة الكلمة لتصل للقارئ كما يتمنى أن تعود إليه.
وحول تماهياته مع الكتب التي يقرأها أو شعوره بسطوة الكاتب حيال ما طرح بين يديه، وصف العنزي بقوله: ربما يجدر سرد سيرة قصيرة وصغيرة، حول ذلك الكتاب الذي غير من مسار حياتي بلذّة شقاء الكاتب، انتقل إليّ ذلك النور بعدما كُنت أفكر فيما لو عُشت وحيداً من يجلب لي ذلك الجليس. حتى كانت لفتت الكتاب الحانية يوماً يشبه بيوم الخلود وأنا التحف تحت جلباب هؤلاء العُظماء الذين يتقاسمون معي خبزة الشقاء، والفرح. أجدني أسيراً لكُتب العقاد (هذا أنا)، وتبدأ سلسلة طه حسين (على هامش السيرة)، ثم تعصف بي مؤلفات عملاق الادب العالمي دوستويفسكي ومنها رواية (الإخوة كارامازوف) لم تكن الخاتمة لتتوقّف في تاريخ الأدب العالمي إلا أعيد مرة تلو المرة، قراءة جديدة، عن نفسي، فلا محل لي سواء الجلوس على كُرسي الصمت! لأتعلّم من جديد.
** **
- محمد هليل الرويلي