قراءة الشعر من ديوان أو من مجلة أو صحيفة وسيلة بديلة عن غياب الشاعر الذي يلقيه، فالأصل في الشعر أن يُسمع لا أن يُقرأ. وحتى يقترب استمتاع القارئ بالنص الشعري المكتوب من متعة النص المسموع هناك أمور حاولت أن أجمعها في هذا المقال، وأعرضها على القارئ الكريم مدليا برأيي، ومستنيرا برأيه بهدف الوصول لصيغة موحدة لتدوين النص الشعري.
وأول ما أراه مانعا من انسيابية قارئ النص، وجعله يعيد ما قرأ عدم ضبط الكلمات التي لقراءتها أكثر من وجه. فيضطر القارئ للتوقف ومحاولة ضبط الكلمة ضبطا يؤدي للمعنى الصحيح ومعاودة قراءتها ثانية. ولا يعني هذا أن نضبط كل حروف الكلمة، ولا كل كلمات القصيدة، فهذا مما يشوه النص المكتوب، ويتجاهل فطنة القارئ وتذوقه للشعر.
كما أن الشاعر قد يقحم في نصه أسماء أعلام لأشخاص أو أماكن، ومنها أسماء أجنبية بعضها مجهول لكثير من القراء، وعندها لا بد من ضبط ما يقتضي ذلك، مع وضع المصطلح بين معقوفين. وهنا أشير إلى حسن صنيع من اعتنى بديوان أحمد شوقي، إذ أوضح المراد من علمين وردا في بيت له، يجهل كثير من القراء المقصود بالأول منهما، والبيت هو:
وسألت هل من (لؤلؤ) أو (طارق)
في البحر تخفق فوقه الأعلام
فقد بين الناشر أنهما حسام الدين لؤلؤ؛ أمير الأسطول المصري في الحروب الصليبية، وطارق بن زياد قائد فتح الأندلس.
ولكن في مثل البيت التالي لا يحسن التعريف بالأعلام لأنها معروفة، ويُكتفى بالمعقوفين يحيطان بكل علم، كما صنع الناشر في القصيدة نفسها:
(نيرون) لو أدركتَ عهد (كرومر)
لعرفت كيف تنفذ الأحكام
ومما يتصل بهذا بعض الكلمات المعجمية التي يلجأ إليها الشاعر إما اضطراراً أو اختيارا لإظهار براعته اللغوية، وهذه الكلمات يتردد كثير من الشعراء في شرحها في حاشية الصفحة لأن الشعر لا يحتاج إلى تفسير، وأقول لهؤلاء إننا لا نطالب بشرح معنى الأبيات، وإنما بيان المقصود باللفظة الغريبة.
ويضطرب الشعراء - ومعهم الناشرون - في تدوين الشعر حين تكون الأبيات مدورة، فبعضهم لا يفضل قسمة الكلمة بين شطري البيت، فيضع الكلمة كاملة في أحد الشطرين، وقد كان الشعراء قديما - أو ناشرو دواوينهم - يضعون حرف (م) بين الشطرين للدلالة على أن البيت مدور.
والذي أراه أنه لا ضرر من قسمة الكلمة بين الشطرين، وقد أمدتنا أجهزة الطباعة الحديثة بوسائل لمد الحروف المتصلة، في حالة ما إذا كان الحرفان اللذان نريد الفصل بينهما من الحروف المتصلة في الخط العربي. وهذان بيتان لحمزة شحاته أنموذجا لما عنيته:
فانطلقنا إلى الحفيظة لا نلوي على العاذلين والنصحاءِ
لا نهابُ الرَّدى فما زال مسرا نا ومسرى أجدادِنا القدماء
غير أن إشكالا يظهر أحيانا، في حال ما إذا كان الحرفان المراد فصلهما حرفا مشددا، فهل نكرر كتابة الحرف بحيث يكون في الشطر الأول ساكنا وفي الثاني متحركا؟
ومثاله قول حمزة شحاته أيضا:
ويك ما زلت أخرق الرأي والخطّة ذا شيبة وكهلا وأمردْ
فالشطر الأول ينتهي بالطاء الأولى الساكنة، ويبدأ الشطر الثاني بالطاء المتحركة.
ومن الملاحظ اختلاف النصوص الشعرية المطبوعة عندما تكون القافية محركة بالكسر، وهذا يعني إشباع الكسرة حتى تنطق ياء. كما في قول عائشة التيمورية:
وقام يخطر والأرداف تقعده
وخصره يشتكي سقما لمشتاقِ
فهناك من يلحق بالروي ياء من أجل القراءة الشعرية الصحيحة، وهناك من يكتفي بالكسرة، اعتمادا على تذوق القارئ وفطننه.
وفي بعض الحالات تكون إضافة الياء خطأ نحويا، كما لو كان البيت المكسور الروي منتهيا باسم منقوص غير مسبوق بأل، مرفوع أو مجرور، كما في قول المتنبي:
يَرمي بها البلد البعيد مُظَفَّرٌ
كلُّ البعيد لهُ قريبٌ دانِ
فالقاعدة النحوية تقتضي حذف الياء من كلمة (دانِ) لأنها في حالة رفع.
وقد أُثبتت الياء في ديوان حمزة شحاتة، مراعاة للنطق وخلافا للقاعدة النحوية في قافية البيت التالي:
فما القول مسموح ولا الجهد نافذ
لكلِّ وضيعِ الخلتينِ مرائِي
ومن المواضع التي يكثر فيها الخلاف إذا انتهى البيت بتاء مربوطة، وكان روي القصيدة هاء ساكنة، فمنهم من يكتبها هاء، مثل (وسيلهْ) و(جميلهْ)، كما وقع في ديوان حمد الحجي؛ طبعة وزارة الإعلام:
نجدُ ماستْ رسومه من سرورٍ
بك فاهتز في رباه الجميلهْ
وهذا غير مستساغ إملائيا، والأفضل كتابتها تاء مربوطة وعليها سكون، ولن ينطقها القارئ تاء مادام يرى السكون.
ولكن قد يشكل مثل كلمة (الحياةْ) لو وقعت قافية مقيدة - أي ساكنة - لأن الوقوف عليها يمكن بجعلِها هاء أو تاء، وهذا يحدث حين لا يتقدمها من الأبيات ما يدل على الروي، أهو هاء أم تاء. مثل قول الشابي في مطلع قصيدة له:
ألا أبها الظالم المستبد
حبيب الفناء عدو الحياةْ
لكن بغض النظر عن كون الروي تاء أو هاء فالواجب ألا تكتب هاء.
واعتاد بعض الشعراء والناشرين عند مجيئ الميم مضمومة - ولو في حشو البيت - إلحاق واو للدلالة على أن الميم ليست ساكنة، وذلك إذا كانت الميم نهاية ضمير مثل (همُ) أو علامة جمع مثل (عليكمُ) فيكتبونها (همو) و(عليكمو) وهذا تشويه للكتابة لا داعي له، فتكفي الضمة لإرشاد القارئ للنطق الصحيح، كما كتبت في ديوان المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همُ
وقبل أن أنهي هذه النقاط أتمنى أن نصل إلى الاتفاق على نهج واحد في تدوين الشعر. وإن كان لا بد من خلاف، ولم يكن الاتفاق ممكنا، فليت كل شاعر وناشر يلتزم منهجا واحدا في الديوان الواحد، لأن المشاهَد في بعض الدواوين اختلاف كل قصيدة عن تاليتها، بل أحيانا تختلف القصيدة الواحدة من بيت لبيت.
وفي أيامنا المعاصرة وجدنا شعراء يدونون الشعر العمودي كما لو كان شعر تفعيلة، وهم بهذا النمط يتخلصون من بعض المشكلات التي ذكرت، فلا يبقى عندهم تدوير ولا حروف مدغمة تحتاج إلى تفكيك. وإذا كان كثير منهم يلجأ لهذا النمط خروجا عن المألوف، فقد نجد عند بعضهم هدفا آخر، وهو إرشاد القارئ إلى مواضع الوقف عند اكتمال المعنى، وليس عند اكتمال البيت أو الشطر.
ومن تتبعي لبعض إصدارات الشعراء المعاصرين، وطريقة توزيع جملهم الشعرية على الأسطر وجدت هذا الهدف متوفرا في بعض الدواوين، دون الأخرى، وفي بعض قصائد دون أخرى. إن هذه الطريقة تحتاج إلى جهد مضاعف، وحاسة فنية لدى الشاعر، ولا يصح أن تترك المهمة لغير الشاعر نفسه من ناشر أو مخرج. وسأضرب أنموذجا موفقا للشاعر حاتم الجديبا من ديوانه الأخير (تماما كما كنت وحدي). يقول:
(ميامي) كاشتهاءات السكونِ
تضيء بها
فراشات الغصونِ
كنخب (كمنجة)
يشدو صباها
ويرقص فوق إيحاء العيونِ
ولعل القارئ الكريم أن يتأمل وهو يقرأ الدواوين والقصائد التي كتبت على هذا النحو، ويرى إن كان الشاعر مدركا لما فعل، أم أنه محض مقلد مساير لركب التجديد الشكلي.
** **
- سعد عبدالله الغريبي