دلالة كلمة مَهْر في اللغة العربيّة الفصيحة، واللهجات الدارجة واضحة، ومتداولة قد لا تستدعي الكتابة عن مدلولها، ولكن لفتني حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الذي رواه البخاريّ الذي قال: «حدّثنا عليّ بن عبدالله، حدّثنا سفيان عن الزهريّ عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: نهى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- عن ثمن الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغيّ»(1)، وجاء تفسير المركّب الإضافيّ: (مهر البغي) بكسب البغيّ في حديث آخر هو: «لعن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الواشمة والمستوشمة، وآكل الربا وموكله، ونهى عن ثمن الكلب، وكسب البغيّ، ولعن المصوّرين»(2). وحكم ابن حجر (ت853هـ)، والعيني (ت855ه) على هذا التعبير بأنّه من باب المجاز(3)، وقد استشكل عليّ تسمية صداق الزوج، وأجرة الزانية بمسمًّى واحدٍ، وهو المهر، وبخاصّةٍ أنّ هذا التعبير لم يعد مستعملًا لا في اللغة العربيّة الفصيحة المعاصرة، ولا في بعض العامّيّات الدارجة التي أعرف شيئًا منها. وأيضًا طرأ عندي تساؤل هو: لمَ غاب تعبير (مهر البغيّ) عن الحضور في أكثر المعجمات اللغويّة القديمة التي وصلت إلينا، وفي أكثر المعجمات اللغويّة الحديثة؟
ولدَفْعِ هذين الاستشكالين فإنّي راجعت بعض المعجمات اللغويّة التي تيسّر لي الاطّلاع عليها؛ للبحث عن دلالة كلمة (مهر) في اللغة، ولم أجد من ذكرها بمعنى أجرة البغيّ من المعجميّين المتقدّمين، والمتأخرين الذين وقفتُ على معجماتهم. فقد جاء في معجم العين المنسوب إلى الخليل بن أحمد (ت175هـ) فقط ذكر مهر الزوج(4)، وأيضًا لم يورد ابن دريد (ت321هـ) للمَهْر معنًى غير صداق الزوج(5) واقتصر أبو منصور الأزهريّ (ت370هـ) على ذكر الصداق معنًى للمهر(6)، ولم يذكر الصاحب بن عبّاد (ت385هـ) سوى الصداق في معنى كلمة (مَهْر)(7)، واقتصر الجوهريّ (ت393هـ) على أنّ المهر هو الصداق(8)، وذكر ابن سيده (ت458هـ) أنّ معنى المهر هو صداق الزوج(9)، ولم يورد ابن منظور (ت711هـ) للمهر معنًى إلّا صداق الزوج(10). وورد في القاموس المحيط للفيروزآبادي (ت817هـ) دلالة المهر على صداق الزوج فقط(11)، هذا أبرز ما جاء في المعجمات القديمة التي تيسّر لي الاطّلاع عليها، وقد بحثتُ أيضًا في مادّة (م/ه/ر) في بعض المعجمات الحديثة، ولم أجد إشارة إلى أنّ كلمة (مهر) قد تطلق علي كسب الفاجرة. ومن هذه المعجمات التي راجعتها معجم لاروس إذ إنّ خليل الجرّ لم يذكر معنًى للمَهْر غير صداق الزوج(12)، ومعجم المنجد الذي جاء فيه أنّ معنى المهر هو ما يجعل للمرأة من المال الشرعي الذي تنتفع به(13)، والمعجم الوسيط الذي جاء فيه المهر «صداق المرأة ما يدفعه الزوج إلى زوجته بعقد الزواج»(14)، ومعجم الرائد الذي ورد فيه «المهر الصداق، وهو ما يجعله الزوج للمرأة من المال معجّلًا أو مؤجّلًا عند عقد الزواج»(15). وبعد هذا التطواف مع بعض المعجمات قديمها وحديثها ينقدح في الذهن سؤالان مفادهما: لمَ لمْ يذكر اللغويّون المتقدّمون ممّن ألّفوا المعجماتِ اللغويّةَ الخالصة التي وصلت إلينا معنى أجرة البغيّ في مادّة (م/هـ/ر) بعد ذكر المعنى الحقيقيّ للمادّة؟ ولمَ لمْ ينقل معنى كسب البغيّ المعجميّون المحدثون في معجماتهم الحديثة مثل: المعجم الوسيط، والمنجد، ولاروس، والرائد، وغيرها؟
ولمزيد من البحث عدتُ إلى معجم أساس البلاغة للزمخشريّ (ت538هـ) الذي اهتمّ بذكر المعاني المجازيّة بعد ذكر المعاني الحقيقيّة للموادّ اللغويّة، ولم أجد أنّه ذكر معنًى مجازيًّا للمهر قد يتضمّن الاتّساع في إطلاقه على أجرة البغيّ، فقد اقتصر على المعنى الحقيقيّ، وهو المهر بمعنى صداق الزوج(16). وقد طرأ ببالي أنّه قد يكون من باب المضاف والمنسوب أي: إنّه مركب إضافيّ (مهر البغي/ كسب البغيّ/ أجرة البغيّ) فعدتُ إلى كتاب أبي منصور الثعالبيّ (ت429هـ) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، ولم أجد شيئًا حوله، أو أنّه وارد في كتب الفروق اللغويّة فلم أظفر بهذه الدلالة للفظ (المهر) فالوارد عند الصعيديّ، وموسى بمعنى الصداق في قولهما «المهر ما يُستحلُّ به الحرائر من النساء»(17).
وبعد طول غياب استعمال كلمة (مَهْر) مقصودًا بها أجرة البغيّ عن المعجمات اللغويّة الخالصة المتأخرة فإنّ أوّل ذكرٍ لها -بحسب اطّلاعي- وجدتُه في تاج العروس للزبيديّ (ت1205هـ) إذ يقول إنّ «مهر البغيّ المنهيّ عنه هو أجرة الفاجرة»(18)، ثمّ ورد هذا الاستعمال بعد ذلك في العصر الحديث عند بطرس البستانيّ (ت1883هـ) الذي قال: «وفي الحديث ونُهِيَ عن مَهْر البغيّ أيْ: عن أجرة الفاجرة»(19)، والسؤال هو: لمَ تأخّر ورود دلالة المهر على أجرة الفاجرة حتّى أواخر القرن الثاني عشر الهجريّ زمن تدوين الزبيديّ إيّاها؟ ولمَ لم يشر إليها من المعجميّين المحدثين -بحسب اطّلاعي- إلّا بطرس البستانيّ؟ يبدو السبب في ذلك هو إهمال استعمالها في اللغة الفصيحة قديمًا وحديثًا، وفي بعض اللهجات العربيّة الدارجة، ولعلّ سبب إهمال هذه الدلالة أنّها تصنّف من المحظور اللغويّ.
ولا يُستغرَب ورود تعبير (مهر البغيّ) في المعجمات اللغويّة غير الخالصة التي اهتمّت بشرح غريب اللغة في بعض كتب الفقه؛ لأنّ هذه المعجمات تأثّرت بدلالات الاصطلاحات الفقهيّة في المذاهب الأربعة الشهيرة، فقد ذكر المطرّزيّ الحنفيّ (ت610هـ) أنّ مهر البغيّ بمعنى أجرة الفاجرة(20)، وذكر الفيّوميّ (ت770هـ) الشافعيّ أنّ مهر البغيّ بمعنى أجرة الفاجرة(21)، واهتمامها بهذا التعبير يعود إلى أنّهما فقيهان يشرحان ما انبهم من دلالة بعض الألفاظ في كتب فقهيّة محدّدة أحدهما في فقه الحنفيّة، والآخر في فقه الشافعيّة.
وفي الختام ينبغي لمدوّني ألفاظ المعجمات المعاصرة تدوين دلالة كلمة (مَهْر) بإطلاقيها الشرعيّين: مهر الزوج، ومهر البغيّ؛ لأنّ الاستعمال الثاني ورد في حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وحديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بألفاظه ودلالاته صالح لكلّ زمان ومكان، وقد يحتجّ بعضهم بعدم ورود المهر بمعنى أجرة البغيّ في الشعر العربيّ القديم؛ لذا لم يذكره المعجميّون في معجماتهم اللغويّة الخالصة، ولكنّ الردَّ على ذلك يكون بأنّ حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يعدّ مصدرًا من مصادر تدوين اللغة، وبخاصّة أنّ لفظ المهر هنا فيه زيادة دلاليّة مجازيّة تعطي معنًى جديدًا مقابلًا للدلالة الحقيقيّة.
... ... ... ... ...
الحواشي:
(1) البخاريّ، محمّد بن إسماعيل: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وسننه وأيّامه، تحقيق: محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ، جـ7، ص61.
(2) البخاريّ، محمّد بن إسماعيل: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وسننه وأيّامه، تحقيق: محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ، جـ7، ص61.
(3) انظر العسقلانيّ، أحمد بن عليّ بن حجر: كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاريّ، أخرجه: محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، جـ4، ص427. وانظر العينيّ، بدر الدين: كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ، دار إحياء التراث، بيروت، جـ12، ص58.
(4) انظر الفراهيديّ، الخليل بن أحمد، كتاب العين، مادّة (م/هـ/ر)، جـ 4، ص170.
(5) انظر ابن دريد: محمّد بن الحسن: جمهرة اللغة، مادّة (م/هـ/ر)، جـ2، ص804.
(6) انظر الأزهريّ، محمّد بن أحمد: تهذيب اللغة، مادّة (م/هـ/ر)، جـ6، ص159.
(7) انظر الصاحب، إسماعيل بن عبّاد: المحيط في اللغة، مادّة (م/هـ/ر)، جـ1، ص308.
(8) انظر الجوهريّ، إسماعيل بن حمّاد: تاج اللغة وصحاح العربيّة، مادّة (م/هـ/ر)، جـ2، ص821.
(9) انظر ابن سيده، عليّ بن إسماعيل: المحكم والمحيط الأعظم، مادّة (م/هـ/ر)، جـ4، ص316.
(10) انظر ابن منظور، محمّد بن مكرم: لسان العرب، مادّة (م/هـ/ر)، جـ5، ص184.
(11) انظر الفيروز آبادي، محمّد بن يعقوب: القاموس المحيط، مادّة (م/هـ/ر)، ص478.
(12) انظر الجرّ، خليل: لاروس المعجم العربيّ الحديث، مادّة (م/هـ/ر)، ص1168.
(13) انظر المعلوف، لويس: المنجد في اللغة، مادّة (م/هـ/ر)، ص777.
(14) مجمع اللغة العربيّة في مصر: المعجم الوسيط، مادّة (م/هـ/ر)، جـ2، ص889.
(15) مسعود، جبران: الرائد معجم لغويّ عصريّ، مادّة (م/هـ/ر)، ص778.
(16) الصعيديّ، عبد الفتّاح وموسى، حسين يوسف: الإفصاح في فقه اللغة، دار الكتب المصريّة، الطبعة الأولى، 1348هـ/ 1929م، ص151.
(17) انظر الزمخشريّ، محمود بن عمر: أساس البلاغة، مادّة (م/هـ/ر)، ص234.
(18) الزبيديّ، محمّد مرتضى الحسيني: تاج العروس من جواهر القاموس، مادّة (م/هـ/ر)، جـ14، ص160.
(19) البستانيّ، بطرس: محيط المحيط قاموس مطوّل للغة العربيّة، مادّة (م/هـ/ر)، ص867.
(20) انظر المطرّزيّ، ناصر بن عبد السيّد: المغرب في ترتيب المعرب، مادّة (م/هـ/ر)، ص449.
(21) انظر الفيّوميّ، أحمد بن محمّد: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، مادّة (م/هـ/ر)، جـ2، ص582.
** **
- فهد بن عبد الله الخلف