شحيحة هي كتب السِير الذاتية أو المذكرات الشخصية في مجتمعنا، وإن كتبت فهي (غالباً) تروي قصص النجاحات والمناصب والزهو بما أنجز، متجاوزة محطات المعاناة وحضور المكان والعائلة وسيرورة المجتمع.
الدكتور صالح العلي الهذلول (وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية لتخطيط المدن) السابق كسر هذه القاعدة، وكتب لنا سيرة طفل معدم وإنسان خرج من بيوت الطين وقسوة الفقر ومدارس الرمل والحصير والمشي حافياً, لكنه نحت عبر الصخر وبأصابع دامية وعبر مسيرة تعلم طويلة ومستدامة حتى وصل الجامعة (كلية الهندسة) طالباً ثم خريجاً فمعيداً ومبتعثاً حتى عاد حاملاً شهادة الدكتوراه من أحد أرقى جامعات العالم، جامعة كامبردج معهد (إم إي تي) بالولايات المتحدة.
وفي كل هذه المسيرة الطويلة والقاسية كان الدكتور صالح يتوقف دائماً ليشارك العائلة (الأم والزوجة والإخوان والأقارب وحتى الأصدقاء) يشاركهم قصة هذا النجاح معترفاً بالفضل لكل الذين قدموا له عوناً ولو كان صغيراً.
طفل قرية «البدايع» مدينة البدائع بالقصيم ولد في زمن كان الزائر الثابت في تلك القرى هو السيد الموت. هذا الموت اختطف أباه مبكراً جداً، مبقياً زوجة ثكلى وثلاثة أطفال، طفلين وطفلة، لكن الموت ما لبث أن عاد ليختطف الطفلة نورة. ولم تكن الأسرة فقيرة بل تحت خط الفقر، وكان رأس مالها الوحيد هو بقرة مشتراة بالدين، وما لبثت الأم أن أعادتها لبائعها وموكلة أمرها وأطفالها لله.
ومن وسط هذا الركام خرج الدكتور صالح الهذلول ونجا من الزائر الموت ومن الأمراض والعلل مرات كثيرة وتجاوز كل المصاعب وكل ما تعسرت (تيسرت) وليغدو أستاذاً جامعياً مرموقاً ووكيل وزارة مبدعاً، وعضواً فاعلاً في العديد من المؤسسات والهيئات بما في ذلك مجلس الشورى في دورته الأولى. وللحقيقة لم يكن الدكتور صالح الوحيد الذي خرج من تلك البيئة وبيئات مشابهة ولكن لعله الأكثر مثابرة وربما الأكثر حظاً وإن كان الحظ وحده لا يكفي.
ومن خلال سيرة الدكتور صالح عرفنا الكثير من التحديات وخاصة في شقها العملي في الوزارة، وعرفنا الكثير من العمل الجاد والدؤوب الذي يقوم به المسؤولون ولا نعرفه، كما عرفنا بعض أمثلة البيروقراطية المعطلة، وكذلك تأثيرات بعض رجال الصحوة التي أربكت المجتمع وعطلت محركاته مراراً, حتى وإن تعرض لها الدكتور صالح قليلاً وأوردها كشواهد فقط.
وقد أنصف المفكر إبراهيم البليهي هذه السيرة عندما قال: (إنها ليست فقط سير للدكتور صالح الهذلول بل هي سيرة مجتمع وتأريخ لطفرة غير مسبوقة وتذكير بما كانت عليه هذه البلاد وكيف حققت هذه التغيرات النوعية خلال عصر فرد من أبناء هذا المجتمع).
(تيسرت) سيرة إنسانية رائعة، يغلب عليها الوفاء للزوجة التي يعترف الدكتور صالح بالفضل وبكل تجرد وبالأصدقاء والزملاء وحتى المدن التي زارها وأقام بها.
كما قدم لنا فيها مثالاً رائعاً عندما فضل التقاعد والتنحي وهو في أرقى المناصب وقمة النجاح. وانحاز للعائلة ولهواياته وللعمل الجامعي ولطلابه الذين كان يرى فيهم امتداداً لنجاحاته.
(تيسرت ) سيرة ذاتية كتبت باحترافية ومرجعيات وافية وتعريف بكل الأسماء التي وردت، وكان ذلك يتطلب جهداً كبيراً لكن الدكتور صالح قام به وكيف لا وهو الباحث والأكاديمي الذي لا يؤمن إلا بالنجاح.
السيرة كتبت في 427 صفحة وصدرت عن مركز الأهرام للترجمة والنشر بالقاهرة للعام 2021.
** **
- عمرو العامري