السيرة الذاتية البيئية
حظيت السيرة الذاتية ببعض الاهتمام من النقاد البيئيين ولو أنه اهتمام لم يصل بعد إلى ما حظيت به الأجناس الأدبية الأخرى. وجاء هذا الاهتمام بخاصه في السيرة الذاتية البيئية eco- autobiography التي تعرف بأنها «نوع من النص السير ذاتي الذي يمكّن كتاب الطبيعة من اكتشاف ذوات لهم في الطبيعة». وعلى الرغم من أن هذا النمط من الكتابة لا يشكل جنساً أدبياً مستقلاً بذاته، فقد غدا أسلوباً بارزاً في كثير من السير الذاتية الغربية التي تجمع بين علم الطبيعة وكتابة الحياة، أو بين سرد المكان وسرد الذات. وتوصف هذه العلاقة بأنها تناص بين الشخص والمكان الذي يوجد فيه بوصفه «علاقة تكافليه»»، يكون المزج بينهما قادرا على خلق نوع جديد من الذات. فالصوت السير ذاتي يتشكل بالبيئة (المكان، الفضاء) التي يتداخل معها محققا بذلك نوعا من التناص بين التأمل الخارجي والداخلي للذات، ليعطي صوتا وذاكرة للمكان والبريه.
وبطيعة الحال لا يمكن عدَّ «سيرة الوقت» لمعجب الزهراني سيرة ذاتيه بيئية بهذا المعنى، ولكنها بالتأكيد تحتوي على وعي كبير بالبيئة يحضر بقوه في أماكن متعددة منها، وبخاصه في الجزء الأول المتصل بالطفولة والصبا، حيث يكون السرد الذاتي لحياة الكاتب ممتزجا أشد الامتزاج بالطبيعة وعناصرها المتنوعة. ونراه كذلك حاضرا في بقية الأماكن التي تسرد الذات من خلالها حياتها في الرياض وفي باريس على سبيل مثال.
وسأركز في هذه القراءة على تبين بعض عناصر النقد البيئي التي حددها (قرق جرارد) Greg Garrard، وهي: البريه، الرعوية (الفلاحة والرعي)، والحيوانات، والتلوث بوصفها الأكثر العناصر حضورا في هذه السيرة.
البرية والبيئة الزراعية
والرعوية
يعد هذان العنصران من أشد العناصر حضورا في سيرة الوقت، حيث نرى اندماجا منقطع النظير بين سرد حياة الكاتب وسرد مظاهر الطبيعة إلى درجة أن الكاتب يجعل الطبيعة هي الهوية الحقيقية له ولأناس قريته. ففي فصل جاء بعنوان («أبناء الطبيعة») يقول معجب الزهراني وهو بصدد التعريف بهويته: «فكلنا أفراد بهوية واحده وهوايات متشابهة، فلاحون نحب الأرض ونرى السماء ساحة للنجوم أو معبرا للغيوم ومصدرا للمطر... فشجرة الحياة القروية أكبر من كل الاشجار العائلية الصغيرة» ( سيرة الوقت، ص 20). فالبيئة المكانية هي التي تجمع أهل القرية وتؤلف بينهم، وهي محور حياتهم، يقول الزهراني: «فالجميع شركاء في المكان، وليس هناك أقوى من الانتماء للمكان ذاته أرضا وسماء، سهلا وجبلا، وكم كان الواحد منا يزهو بذاته وهو يسمع من يصفه بأنه ذئب أو سبع أو صقر... وإذن فلا أبالغ حين أقول إننا وهي (الكائنات) أبناء الطبيعة» (ص، 21).
ويصف الوادي الذي عاش فيه بأنه هو الهوية له ولأفراد قريته، ومفردات الطبيعة التي يوظفها الكاتب ويربط ذاته بها في هذا الجزء كثيرة ومتنوعة، تشتمل على: الوادي، والجبل، والمزارع، والرعي، والمطر، والمواسم،والشلالات، والأشجار بأنواعها المختلفة...إلخ. كما أن ساحة القرية العجيبة التي يصورها، أبطالها من البشر ومن الحيوانات كالحمير والكلاب والثيران (ص ص 33-39). ولذلك تشكل القرية في اعتقادي صورة رمزية للتعايش بين البشر والطبيعة واندماج أحدهما في الآخر اندماجا كبيرا.
وقد يخرج الكاتب من وصف القرية إلى وصف المدينة التي تعد نقيضا لصفاء القرية وأمنها وهدوئها ونقائها، فالمدينة مصدر للتلوث والقلق والصخب ...إلخ.
والطبيعة التي يصورها الكاتب ويندمج (أو لا يندمج) معها يمكن تحديدها في القرية وجبالها وأوديتها كما أشرنا، وفي الصحراء باتساعها وجدبها وشراستها « لم أر الصحراء من قبل إلا لونا بنيا على الخارطة كنت أحسب أن الأرض كلها جبال ووديان ومزارع وأن الوقت أربعة فصول... وها هو البر يمتد عاريا مدى البصر، والهواء كله جفاف يتربص بأي خلية حية في الشجر والحيوان والبشر» (ص، 54). وكذلك نرى اندماج الذات الكاتبة في البحر بجماله وثرائه الذي شكل مهربا للكتاب في كثير من الأماكن التي ارتحل إليها، كما فعل في وصفه للمحيط الأطلسي وهو يراقب جلاله ومهابته من شرفته «استيقظت مبكرا كعادتي وتوجهت مباشرة إلى الشرفة لأرى مشهدا لا ينسى لفرط جلاله مهابته، فها هو الأطلسي يمتد إلى نهاية العالم، وأمواجه العالية الهادرة تزيده عنفوانا وجاذبية...» (ص،132).
وأخيرا لقد شكل الريف والقرية ملاذا للهروب من ضوضاء المدينة وتلوثاتها المختلفة ومكانا يعيد فيه الكاتب الالتقاء بذاته التي هربت منه, ولكنها ذات مختلفة قوامها هذه المرة الامتزاج في الطبيعة إلى درجة أنها أصبحت تشكل ذاته المستردة هذه. يقول على سبيل المثال واصفا جمال الطبيعة الفرنسية: « وانطلق العملاق الحديدي يشق طريقه بمرونة كبيرة من مدينة إلى بلدة فقرية، ومن حقل إلى غابة، ومن نهر إلى بحيرة، ولا أثر لوجه الأرض السافر، ولولا المرور ببعض المنشآت التجارية والصناعية لخيل لي أنني أعبر فضاءات متقطعة من تلك الجنة الخضراء التي طالما حلم بها سكان الصحراء الجرداء»(ص، 123).
الحيوانات
احتلت الحيوانات بكل أنواعها مكانة بارزة في سيرة الوقت سواء في الأماكن التي يسرد الكاتب حياته فيها داخل المملكة أو في فرنسا. و أبرز ما يلاحظ عن حضور الحيوان في هذه السيرة هو أنه يأتي مؤنسنا في أغلب الأحيان، وكنا قد رأينا كيف أن الحيوان يعد جزءا من هويته هو وأبناء قريته، ويشمل ذلك الحيوانات بكل أنواعها وكذلك الطيور.
ولعلنا نورد النص التالي مثالا يبين مدى أنسنته للحيوان، عندما كان بصدد وصف كلاب باريس «لقد تحضرت هذه الكلاب كأهلها الذين يحرصون كل الحرص على إشباع حاجاتها الجسدية والعاطفية فتجاوزوا بها مرحلة الاستئناس إلى عتبة الأنسنة... ولا أبالغ لو قلت إن بعضها يبدو أكثر لطفا وتهذيبا من أصحابها وصاحباتها، والدليل أنها قد تتخذ مبادرات جديه لتتواصل مع الغرباء نظرا وشما أكثر منهم ومنهن» (ص 122).
التلوث البيئي
يأتي الوعي بالتلوث البيئي في هذه السيرة أكثر ما يأتي في المقارنات الدائمة التي يعقدها الكاتب بين الحالة البيئية في قريته قديما وحديثا حيث يرى أثر التحضر في الفتك بالبيئة، وتأتي هذه الملحوظات أشبه ما تكون برثاء مؤلم لما حل بهذه البيئة الجميلة التي كان يختزنها في ذاكرته, يقول: «فالبيئة القروية كانت طبيعية خالية من قاذورات العصر الحديث المدمرة، ولذا ترى وجه الأرض يشع طهارة وجمالا بعد كل مطر « (ص 28). ويقول معبرا عن حزنه لما حل بساحة قريته الآن: « وكم أحزن اليوم كل ما رأيت تلك الساحة خاوية مليئة بأنواع النفايات الحديثة الخطرة» (ص39).
والكاتب يسعى إلى القيام بفعل يقترب من أن يكون فعلا رمزيا نوستلجيا، يتمثل ذلك الفعل في بناء بيت سكني له، أغلب مواده مستخرجة من طبيعة القرية ذاتها، ويحاول استصلاح بعض مزارعه المندثرة، وأعتقد أن سبب ذلك هو حنينه الدائم للقرية والعمل في بالزراعة بها.
ويبلغ الوعي بالتلوث البيئي في هذه السيرة ذروته حقيقة في هذا المقطع التالي: « ولعل أسوء الظواهر الجديدة على الإطلاق تتعلق بالبيئة تحديدا. نعم لقد بدأت النفايات الخطرة تنتشر في كل مكان حيث ترمى خراطيش المضخات وكفرات السيارات وأكياس النايلون وعلب الكلوريكس والزيوت و العصيرات وغيرها من المواد الحديثة بين البيوت وفي الطرقات من حولها، ولا أثر للوعي بخطورتها لدى الناس أو لدى البلديات التي لم يكن نسمع بوجودها أصلا» ( ص 98).
وفي موطن آخر نراه يؤكد قلقه من التلوث البيئي بقوله: «وطبيعي أن تكون الأشجار هي الضحية الأولى. وأعد هذا التلوث الذي طال الأرض والسماء هو الأسوأ لأنه ظل يتزايد إلى وقت قريب ليشكل كارثه حقيقية على صحة البيئة وعلى صحة البشر على السواء «(ص، 99).
هذه هي مجرد نظرة عجلى في الأبعاد البيئة في هذه السيرة الذاتية التي تحضر فيها البيئة بقوة على مستويات عدة، استطاع الكاتب أن يوظفها بفنية عالية في سيرته الذاتية التي امتزج فيها الأدب بالبيئة امتزاجا بديعا، وأن يجعل البيئة مكونا رئيسا من مكونات هويته الذاتية بشكل عام.
** **
- د. صالح معيض الغامدي