د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عندما حل نيبور في القاهرة قادماً من الإسكندرية، وهو أول رحالة أوربي يصل إلى المشرق عام 1761 ميلادياً، لم يكن انطباعه حسناً عما رآه في الإسكندرية وحمل المسلمين والعرب سبب ما يراه تخلفاً عن ركب الحضارة، لكنه نسي أو تناسى أن البلاد العربية كانت تحت الحكم العثماني، وأن الدولة العثمانية في مرحلة انحسارها، ولا غرابة في أن يسطر انطباعه عن ما رآه أو سمعه طبقاً لخلفيته الثقافية، وأيضاً تحريه الصواب.
سنتوقف عند ما ذكره عن المقوقس الذي كان في مصر زمن الفتح، وما وصفه بأنه خائن، وحمله تبعات ما رآه في مصر، وهنا علينا أن نبحر في حقيقة واقع مصر من الفتح، فهي بلا شك موطن حضارة مميزة استمرت قروناً عديدة، وكان آخر فراعنتها البطالمة، أحفاد الإسكندر، وهم إحدى الأسر الفرعونية المتتالية، والمختلفة الأصول من مصريين، وكوشيين، وهكسوس، ويسمون الملوك الرعاة لكونهم بدواً، وليبيين مشوشيين، وليبيين من قبيلة اللابو، والبطالمة المقدونيين، ثم الرومان الذين احتلوا مصر عام واحد وثلاثين قبل الميلاد، والفرس أيضاً، ثم الروم البيزنطيين أو الشرقيين.
حال مصر، والدولة البيزنطية، وقت الفتح الإسلامي كان سيئاً، فالمذاهب المسيحية في صراع مرير، وتنافس ونفور، وبينهم مجتمعان واليهود كراهية واقتتال، وفي الإسكندرية كنيسة الملكانيين، وأخرى لليعاقبة الأرثوذكس الأقباط الوطنيين، ولم يكونوا على وفاق، وهناك الكثير من المذاهب الأخرى المتعددة.
بعد أن آل الحكم البيزنطي إلى هرقل، رأى أن تعدد المذاهب المسيحية قد أضعف الدولة الرومية البيزنطية، وأن من الأجدى توحيدهم على مذهب واحد، لكن الملكانيين بقيادة الأنبا صفروسيروس، واليعاقبة بقيادة الأنبا بنيامين، في الإسكندرية لم يكونوا راضين عن الفكرة، والأسوأ أن هرقل قد انتدب لذلك الأمر رجل دين من القوقاز، اسمه قيرس، وفي اللغة المصرية القديمة توضع إم بدلاً من الياء النسبية، فقال العرب المقوقس، أي القوقازي، هذا في بعض الروايات، وقد كان الاختلاف حول كلمة المقوقس كثيراً جداً، فهناك من يراه اسماً، وهناك من يراه لقباً دينياً، وهناك من يراه اسماً لوظيفة وقد أصبحت له اليد الطولى في مصر رغم وجود حاكم إداري مع حاميته من قبل هرقل.
كان المقوقس ظالماً قاسياً جباراً في الأرض، فطلب من صفروسيروس رئيس الكنيسة الملكانية اتباع مذهبه الجديد التوافقي فقبل من فوره لا سيما أنه معين من قبل بيزنطة، وتابع لها، بينما لم يوافق الأنبا بنيامين القبطي الوطني، وتمسك بمذهبه، وهرب إلى الصحراء، وطلب من أتباعه الثبات على مذهبهم، فأمسك المقوقس بأخيه مينا، فعذبه، لكنه ثبت وأبى اتباع المذهب التوافقي الجديد، وتبعه المواطنون المصريون، فما كان من المقوقس، إلا أن قتل منهم أعداداً كثيرة، يذكر بعض المؤرخين أنها بلغت عشرين ألفاً حتى أن الدماء سالت في الطرقات كالسيل، في ذلك الوقت كان هرقل قد تزوج بابة أخته الجميلة رغم بعض المعارضات، وكثر الصراع بين الزوجات والقواد، حتى أنه هم أن يذهب إلى تونس ويعتزل، بعد ذلك فارق الحياة.
في ظل هذه الظروف البائسة، والظلم الذي يعيشه الشعب المصري صاحب التاريخ العظيم، ظهرت دولة فتية مبنية على العدل، وحب الآخرة، والموت في سبيل الله، وسيرت جيوشها صوب جهات مختلفة، ومن ضمنها الشام وفلسطين التي افتتحتها وتصالحت مع أهلها على بقاء كنيسة القيامة، وغيرها، وضمنت حرية الدين، واستطاع عمرو بن العاص إقناع عمر بن الخطاب بافتتاح مصر فوافق بعد تردد، فما كان من عمرو بن العاص، وهو المشهور بالدهاء، إلا أن استغل الوضع السياسي السيئ، وسخط الناس على المقوقس، وراسل المقوقس أيضاً، بعد أن حاصر حصن بابليون الذي تحصن به مع الحامية العسكرية البيزنطية، فقتل المقوقس من الوطنيين المصريين أعداداً هائلة خشية مساعدتهم المسلمين، لكن الأمر حسم بالتوافق والاستسلام، وأبقى المسلمون لأبناء مصر حرية العبادة، ورفعوا عنهم الظلم فدخلت في الإسلام أعداد كثيرة منهم.
نعود لموضوع المقال الأساسي، فالرحالة نيبور لا يرى في القاهرة ذلك الجمال الأخاذ، بل ينتقد تلك الأوساخ المتراكمة على سفوح جبل المقطم، وتلك الأزقة الضيق، والبيوت الرديئة، كما يزعم، ويعجب أن البشوات لم يبنوا لهم مقرات فخمه لعلمهم أن تغييرهم سيكون عاجلاً، كما بهره قصر يقال له قصر يوسف، مزين بالموزاييك، وعروق من الفضة، والأحجار الكريمة، والزجاج، كما زين السقف برسومات بديعة، وبه ثلاثون عموداً، ونوافير، وأحجار منحوتة، وهذا القصر تنسج فيه كسوة الكعبة التي تهدى للكعبة في مكة المكرمة بالحجاز، وقد سمي قصر يوسف نسبة إلى صلاح الدين يوسف الذي أبدع في البناء والعمارة.