أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لما كنتُ طالباً بالمعهد العالي للقضاء، وكنتُ ذا مشاركةٍ مسرِفة في الصحافة: كان شيخنا (محمد عبدالوهاب البحيري) رحمه الله تعالى يُعرِّض بلغة الصحفي وثقافته التي هي دون مستوى العالِم؛ فيقول إذا طرحتُ شيئاً ولم يُعجبه: (لغةُ جرائد)؛ وذلك الهجاء مسلَّمٌ به عند العلماء إذا قالوا: لغة جرائد، أو لغة إذاعة، أو لغة إعلامية.. وملحظهم في هذا الهجاء أن المفردة والصيغة، وتركيب الكلام نحواً.. كل ذلك لا يسلم من اللحن.. كما أن تركيب بعض الجمل ممجوج بلاغة، وهم في نقد التركيب البلاغي يصيبون أحياناً، ويخطئون أحياناً إذا صادفهم ما لم يألفوه في تراثهم الأدبي من بعض الجُمل المستحدثة أو المعرَّبة مثل: (ذر الرماد في العيون)، و(يكسب خبزه من عَرَق جبينه)، و(لا يرى أبعد من أرنبة أنفه)، و(يلعب بالنار)، و(لا جديد تحت الشمس)، و(ألقى المسألة على بساط البحث)، و(توتُّرِ العلاقات)، و(يلعب دوراً خطيراً) هذه من لغة المسرح.. انظر مجلة مجمع اللغة العربية بمصر 7/32 ط م وزارة المعارف العمومية عام 1953 ميلادياً، و1/332-349 ط م الأميرية ببولاق عام 1935 ميلادياً، وكتاب (العربية لغة الإعلام) للدكتور عبدالعزيز شرف ص99 - دار الرفاعي بالرياض، الطبعة الثانية عام 1420 هجرياً.
قال أبو عبدالرحمن: ولستُ على ثقة بأنَّ كل هذه الجمل مما استُحدِث؛ فعرق الجبين كناية عن الجهد والتعب، وقد جاء في الحديث الشريف «أعط الأجير أجره قبل أنْ يجف عرقه» فلا يستبعد أن الجملة تراثية؛ لأنها عطاء مباشر من المجاز العربي.. وعلى التسليم بأنها كلها مستحدثة، فهي جُمل جميلة تفرح بها بلاغة عبدالقاهر والسكاكي، وليس من الشرط أن تكون الجمل البلاغية مأثوراً بلاغياً،بل الشرط أن تكون مبتكرة؛ لتكون إمداداً للنموذج التاريخي، ولكن بلاغة الكلام عمل عقلي لا نقلي، وإنما الشرط التاريخي أن تكون صحيحة لغةً وصرفاً ونحواً.. وهذا هو ما حققه العلَّامة عبدالقادر المغربي رحمه الله تعالى، ولم يقتصر على استحداث الأساليب الجديدة بدعوى الضرورة؛ بل شرطه الصحة لغة وبلاغة.. انظر مجلة مجمع اللغة العربية 1/332-349.
قال أبو عبدالرحمن: الضرورةُ قائمةٌ إلى الأبد، وهي دفع الملل والسأم بابتكار جديد: سليمٍ لغةً، أخَّاذٍ بلاغةً، فالضرورةُ جمالية، وبعكس المغربي العلَّامة محمد كرد علي؛ فقد أبى أساليب جديدة صحيحة لغة أخاذة أو مقبولة بلاغة مع ترحيبه رحمه الله بما في المضاف والمنسوب للثعالبي من أساليب جديدة.. انظر مجلة مجمع اللغة العربية 7/30-37.
قال أبو عبدالرحمن: ومما يُعاب في اللغة الإعلامية الجمود على النمط، وفيه ما هو تراثي سهل، وما هو مستحدث أفسده كثرة الاستعمال، والمطلوب من الصحفي أن يتكلم عن خبرة لغوية، وبإحساس جمالي؛ ليرفع مستوى المتلقي إلى اللغة الجميلة المهجورة في الخطاب الصحفي المغرم بالعادي، وليثري تطلع المتلقي إلى ابتكار جديد.. ومما يُؤخذ على اللغة الإعلامية ترك النظام العربي في تركيب الكلام لغير مُرَجِّح جمالي؛ ولهذا انتقد الأستاذ محمد رضا الشبيبي قولـهم: (موضوع له به عناية)، وفضل تقديم (عناية) لتكون الجملة: (موضوع له عناية به).. مجلة مجمع اللغة العربية 9/46 ط م الأميرية عام 1957 ميلادياً.
قال أبو عبدالرحمن: نعم هذا هو الأفضل بلاغة إلا أن توجد نكتة بلاغية تُرجِّح تقديم كلمة (به) على كلمة (عناية)، ولا أعلم أي نكتة في ذلك.. ويرى الدكتور عبدالعزيز شرف أن: من ميزة اللغة الإعلامية طرح بعض الفضول، ومثَّل لذلك بقول الإعلاميين: (كان من الذين غادروا القطار) بدلاً من (كان بين الذين).. وقول الإعلاميين: (قال في حديثه).. بدلاً من (وقد قال في حديثه).. ورأى أنَّ في استخدام (الحريق) بدلاً من (الأتون)، وفي استخدام (سافر) بدلاً من (ظعن) إيثاراً.. [قال أبو عبدالرحمن: اجتهادي في علامات الترقيم أنْ أضع النقطتين العموديتين بين العامل ومعموله إذا طال الفاصل، وههنا لم أضعهما؛ لأن نصب الإيثار أغنى عن ذلك] للبساطة.. انظر كتاب (العربية لغة الإعلام) ص98.
قال أبو عبدالرحمن: المثال الأول لا اختصار فيه يُذْكر؛ فالفرق بين (من)، و(بين) حرف واحد.. كما أن الاختصار لا يـُحتِّم استعمال (من)؛ لأنه قد يُراد معنى البينيَّة؛ فيحتم حينئذٍ استعمال (بين)، وهكذا يقال عن الربط بكلمة (قد)، وأما الحريق فلا يغني عن استعمال الأتون إذا أريد الموقد بخصوصه لا عموم معنى الحريق، وهكذا لا تغني سافر عن ظعن إذا أريد النص على وسيلة السفر، وإلى لقاءٍ قادم إنْ شاءَ الله تعالى, والله المُستعانُ.