سعود عبدالعزيز الجنيدل
كنت وإخوتي الجمعة الماضية وكعادتنا مجتمعين في بيت العائلة - في تصوري أغلب العائلات السعودية هكذا - حيث دفء بيت الطفولة والشباب والعمر، الذي تختزل جدره قصصاً شتى ومواقف لا تنسى، منها المفرح المحزن، والمضحك المبكي... في تلك الجلسة أراد أبي -حفظه الله- أن يحضر شيئاً لنا، ومع الأسف تعثر وهو يسير، لكن ولحسن الحظ كنت أنا وأخي واقفين نتناقش في موضوع ما، وكنا قريبين من والدنا، فلما همّ بالسقوط، سارعنا لإمساكه والحمد لله أبي لم يسقط، وأبي لا يسقط!
هذا الموقف أجج فيني مشاعر متقدة، تذكرت فيها أبي حينما كنا صغاراً، وكان في أشد قوته وفتوته، حيث لطالما حملنا بين ذراعيه، وأمسكنا كثيراً قبل تعثرنا وسقوطنا، ودافع عنا، وبذل قصارى جهده حتى نشق طريقنا في حياتنا...
وأردت أن أوجه إليه رسالة، أقول فيها:
«أبي لن تسقط، نعم لن تسقط، فأنت من احتضننا بحنانه وعطفه وطيبته، وسهر لراحتنا، وأعطانا من قوته حتى بدأ بالضعف شيئاً فشيئاً، فدعنا نرد لك ولو نزراً يسيراً مما قدمت لنا».
«أبي لن تسقط، فأنت كل ما نملك، فدعنا نعطيك كل ما نملك من صحتنا وقوتنا ومالنا... فأنت السبب فيها، وهذا لن يرد لك معشار ما قدمته لنا».
«أبي لن تسقط، أعواماً طويلة كنت تحملنا وترعانا، وتحرم نفسك من أجلنا، وإذا حققنا نجاحاً في حياتنا أو إنجازاً كنت أكثر فرحاً منا، وكأنك من نال النجاح وحقق الإنجاز».
«أبي لن تسقط، فأنت من علمنا أمور ديننا الذي يحث على بر الوالدين والإحسان إليهما، حيث ربط المولى عز وجل عبادته ببر الوالدين، مما يدل على عظم حقهما علينا، قال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}، حتى لو لم يكن الوالدان مسلمين، فالله سبحانه وتعالى أمرنا ببرهما، قال تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا...} الآية»...
يقول الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله -: «وإن كان لك أب شيخ كبير محتاج إليك، فاذكر أنه طالما تعب لتستريح أنت وشقي لتسعد، ما جمع المال إلا لك وما خسر ماضيه إلا ليضمن مستقبلك، وأنه كان يعود من عمله محطَّماً مكدوداً فتَثِب إلى حِجره وتقول له: بابا، وتمدّ يديك الصغيرتين لتعانقه، فينسى بك التعب والنصَب، ويرى المسرّات كلها قد جُمعَت له والمتاعب كلها قد نأت عنه. وأذكر أنه ما زاد من عمرك يوم حتى نقص من عمريهما مثله، ولا بلغت شبابك حتى ذهب شبابُهما، ولا نلت هذه القوة حتى نالهما الضعف».
أخيراً، من كان والداه حيين فأحسن إليهما، وألزم أقدامهما، فثمّ الجنة، ولا تقطع وصلهما، وأسعدهما بزيارتك لهما، فحين يشاهدانك لا تكاد تسعهما الدنيا من الفرح والسعادة والسرور.
فهنيئاً لمن كان والداه على قيد الحياة، والمغبون من كان والداه حيين، لكنهما بالنسبة للابن أو الابنة في عداد الأموات بسبب تقصيرهما في وصلهما، بحجة أشغال الدنيا التي لا تنتهي!