عبد العزيز المنقور.. اسم مألوف جداً لنا طلاب الستينيات، والسبعينيات.. ممن كان يدرس في الولايات المتحدة.. ويعدون بالآلاف في تخصصات المعرفة كافة..
عرفته أول ما عرفته بشكل شخصي في عام 1967م مع وصولي إلى مدينة نيويورك.. إذ كان علي أن أذهب إلى المكتب التعليمي هناك.. للنظر في أمر التحاقي بأحد مراكز تعليم اللغة الإنجليزية في إحدى الجامعات.. وكنت أسمع كثيراً عن مركز اللغة في ولاية مشجن.. وأتابع في كل يوم حصة اللغة الإنجليزية المذاعة في إذاعة صوت أمريكا.. وكنت وقتها أدرس في كلية التربية في مكة المكرمة.. ثم أعمل بعد التخرج معيداً بها.
وفي صباح اليوم التالي لوصولي إلى نيويورك.. عجلت ماشياً من الفندق الذي كنت أقيم فيه.. بجوار تايمز سكوير.. واستأذنت للدخول إلى مكتب الأستاذ المنقور.. وما إن سلمت عليه حتى أحسست وكأني أعرفه منذ زمن.. لدماثة فيه، وابتسامة لا تفارق محياه.. رحمه الله.. وأبديت له رغبتي في الالتحاق بمركز اللغة في مشجن.. إلا أنه رفض بإصرار قائلاً: إن الجامعة في مشجن لا تصلح لمثلك..! وإني أختار لك جامعة إنديانا.. وهي جامعة لا أعرف عنها شيئاً.. فترددت من جانبي.. وخرجت من المكتب مغاضباً إلى حد ما.. وفي اليوم التالي عدت إلى المكتب وفي عزمي مجادلة الأستاذ عبدالعزيز في الأمر.. إلا أني لم أجده وعلمت من السكرتيرة أنه مسافر للنظر في مشكلات بعض الطلاب.. فأصبت ببعض الرضا.. ودخلت على نائبه (أبو خضرا).
وأبديت له رغبتي في مشجن.. فناولني على الفور ورقة وبها أمر إركاب إلى تلك الولاية.. فسعدت كثيراً، وعجلت الخطى إلى السكرتيرة.. وناولتها الورقة..! فاستمهلتني قائلة: ست داون، مستر. زيد بليز.. وكانت أول من خاطبني مباشرة باللغة الإنجليزية.. فجلست: في انتظار أمر الإركاب.. لكن بدلاً من ذلك ناولتني سماعة هاتفها وهي تقول: مستر منقور أون ذ لاين..: فأخذت السماعة منها وإذا الأستاذ عبدالعزيز رحمه الله يقول لي: عبدالله لا تذهب إلى مشجن، واذهب إلى إنديانا.. والخيار بيدك الآن.. وإني أنصحك.. فشكرته.. ولم أرد أن أقطع بالأمر.. فغادرت المكتب إلى الفندق لأعطي نفسي بعض الوقت للتفكير في الأمر.. وفي الصباح التالي وجدت نفسي في اتجاه إنديانا وفقاً لنصيحته رحمه الله..
وعندما كنت أفكر في الأمر في غرفتي.. أدركت من سلوك السكرتيرة معي أن الأستاذ عبدالعزيز رحمه الله قد أوصاها بأمري مدركاً أني سأذهب إلى نائبه وأحصل منه على ما أريد..!
وآثرت الأخذ برأي الأستاذ المنقور والذهاب إلى إنديانا على بركة الله.. وإذا ما استرجعت الأمر الآن أشكر الله أن هيأ المنقور ليصر علي بالذهاب لإنديانا.. فلقد وجدت فيها بغيتي.. حيث أتممت برنامج اللغة، وحصلت فيها على الماجستير في فلسفة التربية.. لكني اضطررت إلى الانتقال منها إلى جامعة أوكلاهوما لإكمال درجة الدكتوراه.. وذلك لعدم وجود ذلك التخصص بمستوى الدكتوراه فيها.. وخلال وجودي بإنديانا توثقت علاقتي بالأستاذ المنقور إذ لا يمر بالولاية في طريقه إلى ولاية أخرى إلا ويزورني رحمه الله ويأخذ رأيي في بعض الأمور.. ومن ذلك أنه ضاق بحال أحد الطلاب الدارسين في جامعتنا إذ كان معدله صفراً لرسوبه في كل المواد التي يدرسها.. وقال لي بأنه لا يريد قطع بعثته.. ولا أن يستمر على هذه الحالة من الفشل..! وأشرت عليه بأن ينقله إلى جامعة أخرى وذكرت له اسمها.. فقال: والله لقد وجدتها، وشكرني على الرأي وبالفعل نقل الزميل إلى هناك.. ومرت فترة ليست بالقصيرة.. وذات يوم رن جرس الهاتف في سكني وإذا هو بالمنقور.. وبعد التحية قال: أتذكر موضوع فلان، وكان قد غاب عن بالي تماماً..! فقلت نعم.. فقال: أبشرك بأنه قد تخرج وعاد إلى المملكة..! فسررت كثيراً لأمره.. وكان رحمه الله يأنس بالمجيء إلى جامعتنا وكثيراً ما كان يتناول معنا طعام الغداء أو العشاء في مطعم الطلاب.. ويتبادل معنا النكات والمواقف الطريفة التي تواكب حياة الناس.. ناهيك عن حياة شباب وطلاب أمثالنا..!
ومن ذلك: أننا طلبنا من عميد الطلاب الأجانب بالجامعة أن يخصص لنا في مبنى مركز النشاط الطلابي صالة نصلي فيها صلاة الجمعة.. ففعل مشكوراً.. وصرنا نؤدي صلاة الجمعة والأعياد بها.. وفي يوم جمعة من أيام الشتاء نزل على مدينتنا ثلج كثيف غطى نصف الأبواب الخارجية للمباني.. وكان معنا طالب فيه الكثير من الطيبة والبراءة.. فقيل له بأن يطلب من الإمام بعد قضاء صلاة الجمعة أن يستسقي.. فما كان منه إلا أن قفز بعد السلام وجلس بين يدي الإمام وطلب منه الاستسقاء..!
فاستغرب الإمام من الطلب غاية الاستغراب.. وقال له: يا ابني انظر خارج النافذة.. إن الثلج يغطي الساحات كافة..! فهل مع هذا استسقاء.. وأخذ الإمام ينظر إلينا في الصف الأول ويشير إلينا بأصبعه.. وهو يبتسم..! وكان عجب الأستاذ المنقور رحمه الله أشد من عجب الإمام على هذا الموقف عندما أخبرناه..!
ولا تخلو مجالسنا معه رحمه الله من مثل هذه القصة.. بل وعشرات أمثالها..! وفي ذات الوقت كان يقص علينا بعض المواقف الطريفة التي تحصل معه في الجامعات الأخرى..
لقد تخرج على يده رحمه الله آلاف الطلاب.. وكان بمثابة الأب الرحيم بهم.. يحل مشكلاتهم من غير ملل.. وينتقل من جامعة إلى أخرى من غير كلل.. ومرة تأخر صرف راتب الطلاب لأحد الشهور.. فجاءني بعضهم للشفاعة.. لعلمهم بعلاقتي به رحمه الله.. فأرسلت له بيتين من الشعر يتضمنان شكواهم.. فما كان منه إلا أن هاتفني من نيويورك.. قائلاً وبدون مقدمات: وشاعر أنت بعد.. إن الراتب قد صرف وعليكم مراجعة البنك.. في زمن قياسي للاستجابة.. مما يعكس حبه للطلاب.. وجعل خدمتهم أولى أولوياته..
إن مواقفنا معه لا تحصى من الكثرة.. ولا شك أن مئات بل آلاف المواقف قد حصلت بينه وبين طلابه الكثر مما لا أعرف، والذين ينتشرون في كل ولايات أمريكا..
رحمه الله رحمة واسعة، وألهمنا فيه مع ذويه (ونحن من ذويه) الصبر والسلوان و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
د. عبدالله محمد الزيد - جدة