اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
وهكذا ظل يجاهد حتى استشهاده رحمه الله إثر فراغه من صلاة الجمعة آخر شهر ذي الحجة عام 1249هـ/ 1833م. والحقيقة لا بد لي من إشارة سريعة هنا إلى فطنة الإمام فيصل ودهائه عندما بلغه خبر استشهاد والده وهو بعيد عن الرياض يؤدب المارقين العصاة المناوئين، إذ كتم الأمر عن الجميع واحتسب وتجلد بالصبر واستشعر عظمة المسؤولية، حتى لا تتضعضع قواته وتتحطم روحها المعنوية فتخور قواها، الأمر الذي قطعاً يؤثر في صمودها وثباتها. ويذكرني هذا بموقف أبطال المسلمين يوم اليرموك، إذ قيل إن أمر الخليفة عمر جاء لخالد بن الوليد قائد الجيش يأمره بالتنحي وتسليم الراية لأبي عبيدة بن الجراح، وفي رواية إن الأمر جاء لأبي عبيدة ليعزل خالداً ويتسلم الراية منه. وعلى كل حال، الشاهد في الحالتين: أن القائد الذي جاءه الأمر كتمه حتى انقشع غبار المعركة، حفاظاً على الروح المعنوية للجيش. وقد ذكرت هذه الواقعة لسببين أساسيين:
1. تأكيد اطلاع قادة آل سعود على تاريخهم الإسلامي واعتزازهم به واستصحابه في قيادتهم، واتباع القدوة.. وهل هم قد أسسوا هذه الدولة المباركة إلا لعزة الإسلام وتمكينه؟
2. لتكون حافزاً ودافعاً للقادة من شبابنا للاطلاع على تاريخ قادتهم واستلهام الدروس والعبر، فالخبرة دائماً تكون نتاجاً لتراكم تجارب عديدة.
أجل، كان الإمام تركي بن عبدالله بطلاً جسوراً مقداماً، بهرت شخصية مؤرخي العرب والعجم، إذ قال عنه المؤرخ الأمريكي بيل ويندر: (كان تركي حاكماً صالحاً، كان يستعمل القوة عند الضرورة، ويكف عن استعمالها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وكان حليماً رحيماً بشعبه، معروفاً بكرمه وبرِّه بالأرامل والفقراء. كما كان عادلاً رفيقاً برعيته، حريصاً على الصلح العام، وكان تمسكه بالدين واضحاً.. لم يعمل أحد مثله في توحيد البلاد). كما كتب عنه المؤرخ الإنجليزي فيلبي (عبدالله فيلبي): (يعود الفضل في نجاحه التام خلال مدة قصيرة إلى شخصيته، فقد كان يجمع في شخصيته سحراً مغناطيسياً غامضاً، وشيئاً من السيطرة الذاتية غريباً، بصرف النظر عن الجو البطولي الذي أوجده بشجاعته وفروسيته). كما استعرض فيلبي اهتمام الإمام تركي بإعادة بناء ما تهدم وإعادة الإدارة الفعالة إلى أقاليم مملكته كافة.
أجل، لم يكن الإمام تركي عظيماً بشجاعته وقوته فحسب، بل كان عظيماً بخلقه أيضاً، إنسانا بمعنى الكلمة، يحب شعبه ويحرص على سعادته ويكره أن يظلمهم أحد. كما كان طبيباً يداوى المرضى بالأساليب التقليدية المعروفة في زمانه. وكان بجانب هذا كله شاعراً، يعبر عن عاطفته بشعر نبطي رقيق، وتعد قصيدته الرائية التي يعتب فيها على ابن عمه مشاري، من أجمل الشعر النبطي. وقد اشتملت الحقيقة على مفاهيم عديدة:
تلخيصه للدنيا:
دنياك يا ابن العم هذي مغرا
ولا خير في دنيا حلاها مراري
تسقيك حلو ثم تسقيك مرا
ولذاتها بين البرايا عواري
التسليم بالقضاء والقدر:
ما في يد المخلوق نفع وضرا
ما قدر الباري على العبد جاري
والعمر ما يزداد مثقال ذرا
عمر الفتى والرزق في كف باري
وصفه للحال في نجد بعد إعادة تأسيس دولته:
وحصنت نجد عقب ما هي تطرا
مصيونة عن حر لفح المذار
والشرع فيها قد مشى واستقرا
ويقرا بنا درس الضحى كل قاري
زال الهوى والغي عنها وفرا
ويقضي بها القاضي بليا مصاري
كما يتحدث عن رفيق كفاحه السيف الأجرب:
يوم إن كل من عميله تبرا
حطيت الأجرب لي عميل امباري
وما سالت عمن قال لي ما تدرا
حطيت الأجرب لي صديق مباري
ويبقى ربما البيت الأشهر في هذه القصيدة الرائعة الذي يحفظه تقريباً كل المؤرخين والباحثين والمهتمين، يؤكد قيمة الجد والعمل في منهج الإمام تركي، كما يؤكد اطلاعه على الثقافة العربية:
ومن غاص غبات البحر جاب درا
ويحمد مصابيح السرى كل ساري
حيث يشير عجز البيت للقول العربي السائر من قديم: عند الصبح يحمد القوم السرى.
من جهة أخرى، مثلما جاء مدح تركي والإشادة بمناقبه وصفاته القيادية في مؤلفات المؤرخين من عرب وعجم، جاء أيضاً على لسان الشعراء، فها هو خالد الفرج يمدح تركياً:
وقد أنقذ المولى لأمر يريده
من الترك «تركياً» له النصر مركب
أتى «نجد» والفوضى يعج عجيجها
بها زال ذاك الأمن والربع مجدب
وكل دَعيٍّ بالإمارة يدَّعي
قد افترقوا ما بينهم، وتشعبوا
وما عاد حتى استرجع الملك عنوة
وبـ «الأجرب» المشهور يمناه تضرب
وبالطبع، ما كان لصاحب (ملحمة عيد الرياض) بولس سلامة، أن يغفل الإشادة بمناقب فارس الخيل والحسام الصارم، البطل الإمام تركي بن عبدالله في تلك الملحمة الشهيرة، إذ يقول:
وتداعت نجد إلى ظل تركي
فارس الخيل والحسام الصارم
هابه الترك قسوراً يعربياً
واستحبت زأر الهصور الحضارم
هجر النوم ثائر وائلي
بين جنبيه للرجاء عوالم
أبداً يضرم الصدور، كنار
الفرس موصولة بهمة حادم
دون أسوارها تلاشى الأعادي
وعلى بابها تموت المظالم
وتبيت الرياض في ظل أولادي
مناط السها قطب العواصم
صدق الوعد، هكذا كان تركي
عنتراً في الوغى وفي الجود حاتم
فإذا نجد حرة من جديد
والعرين «الرياض» جذلان باسم
عاد تركي فماست النخلة الهيفاء
تيهاً، والورد شق الكمائم
الإمام فيصل بن تركي:
تقلَّد الأمر إثر استشهاد والده البطل الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود، عام 1249هـ/ 1833م. فتحزم للمهمة وأخذ مسؤولية الحكم على عاتقه بعد مبايعة شعبه له.. لكن للأسف الشديد؛ انتشرت في عهده فتن كقطع الليل المظلم، واستشرت كما تفعل النار في الهشيم، وكان كلما أطفأ فيصل نار فتنة هنا، أوقد له العصاة المارقون المتآمرون نارا أخرى هناك. ومما زاد الطين بلة، عودة الحملة العثمانية المعتدية واستغلال قادتها للعملاء أصحاب النفوس الدنيئة، لتعميق الجراح، فجاست خيلهم الديار من جديد؛ ثم كان ما كان من أحداث متلاحقة لا يسع المجال لذكرها.
ومع هذا كله، لم يدخر الإمام فيصل جهداً في القتال والنضال من أجل وطنه وشعبه، وتوسيع حدود بلاده وتأمينها. فأشاع الأمن والسكينة في نفوس الناس، وبسط العدل والحرية والمساواة، ووصلت سراياه حتى عمان وقطر والبحرين.
أجل، كان الإمام فيصل إماماً حكيماً وشجاعاً، شهماً نبيلاً، عادلاً حليماً مهاباً، حريصاً على وأد الفتن وحقن دماء المسلمين، وافر العقل، سمحاً كريماً، حسن السيرة، رفيع الأخلاق، محباً للعلم والعلماء، يجالسهم ويجالسونه، كثير الخوف من الله تعالى، عفيفاً تقياً، صادقاً ناسكاً كثير العبادة، كثير الصدقات. يعيل الأيتام والفقراء ويحرص على إطعامهم بيده الكريمة. وكانت صدقاته ومبراته تصل أهل كل بلد وناحية من ملكه تقريباً فتوزع على الفقراء والمساكين.
وقال فيه صاحب (ملحمة عيد الرياض) قصيدة مطولة، عدد فيها مناقبه وأعماله الجليلة ووصف أخلاقه الكريمة وصفاته الطيبة الحميدة، أكتفي منها بالأبيات التالية:
عدله يلجم اللصوص فذؤبان
الفيافي إلى الصراط أنابوا
ذكروا فيصلاً بأقصى عمان
فتنادوا إلى الصلاة وتابوا
ألمعي شع الذكاء بعينيه
وراضت جنانه الآداب
يتناهى وداعة وخشوعاً
زاهد همه التقى والثواب
فإذا يذكر الإله فللأجفان
رف وللدموع انسكاب
فتعجب ممن تفر أسود
الغاب منه ويخشع المحراب
ما لليتامى في عهده بيتامى
لهم العيش واسعاً والجناب
وهكذا بقي صامداً يؤدي رسالته بكل جرأة وجسارة وثبات، حتى لقي ربَّه في العشرين من رجب عام 1282هـ/ 1856م، فحمل الراية ابنه الأكبر الإمام عبدالله. ثم كان ما كان من فتن ومؤامرات وأطماع خارجية، حتى أفل نجم الدولة السعودية الثانية بخروج آخر أئمتها الإمام عبدالرحمن الفيصل من الرياض، ليقيض الله لهذه الأسرة الكريمة صاحبة الرسالة السامية العظيمة بطلاً جسوراً، استطاع بتوفيق الله، ثم بما وهبه الخالق من مزايا قيادة فريدة والتفاف شعبه حوله، أن يعيد أمجاد آبائه وأجداده، لتمضي قافلة الخير القاصدة قدماً إلى الأبد إن شاء الله.
الملك عبدالعزيز آل سعود:
أجل، قيَّض الله لهذه الأُمَّة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، الذي كان حقاً أُمَّة في رجل؛ كما وصفه بولس سلامة:
أُمَّة وحده يُعَدُّ (أبو تركي)
هو الماس والملوك دراهم
فاستعاد الدولة السعودية بعد رحلة كفاح مريرة من التضحيات والعمل الشاق، ليؤسس هذا الكيان الشامخ الراسخ، الذي ننعم اليوم، بل ينعم معنا سائر العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بثمرة جهاده وكفاحه وحياته الحافلة بالعمل الدءوب والبذل والعطاء بسخاء من لا يخشى فقراً أبداً.
والحقيقة، تشرفت من قبل بتأليف كتابين عن البطل الفذ والد الجميع الملك عبدالعزيز آل سعود (شهادة للتاريخ والجوانب الشخصية في حياة المؤسس) وما زال في النفس شيء من حتى. فكما أكد خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان بن عبدالعزيز، أعرفنا بالمؤسس وأكثرنا شبهاً به، وأعلمنا بتاريخنا، (إن ألف كتاب أو حتى ألفا كتاب لن تكفي لسرد تاريخ عبدالعزيز، لأن تاريخه لا يقتصر على مسيرة الكفاح وإنجازات التوحيد فحسب، وإن كان هذا في حد ذاته جهد عظيم تنوء بحمله العصبة من أولي القوة، بل يبرز شخصيته الإنسانية وما تميزت به من صفات نادرة. ويتأكد لنا هذا من خلال آثاره في العالمين العربي والإسلامي والعالم ككل. وتلك المنجزات الهائلة التي حققها عبدالعزيز لوطنه ولشعبه وللأمتين العربية والإسلامية ومناصرته لقضايا الحق والعدل والسلام في العالم).
وعلى كل حال، سأقتصر الحديث هنا كما وعدتك أيها القارئ الكريم، على الصفات القيادة النادرة الفريدة، التي وهبها الله لقادة آل سعود، فأهَّلتهم لحمل هذه الرسالة العظيمة. فقد كان عبدالعزيز قبل كل شيء، شديد الإيمان بالله، عظيم الثقة به، مطمئناً إلى نصره وتأييده، عابداً زاهداً، وقافاً عند حدود الله. تجسدت فيه كل صفات البطولة الحقة، من تقوى وورع، وقوة وشجاعة، وحزم وعزم وحسم، وإقدام وجسارة، وجود وكرم وتواضع، ومروءة وسخاء، وصدق وصراحة، وحكمة وتسامح وعطف ورأفة. كما كان صاحب نظرة ثاقبة وحس سليم، ورؤية واضحة، وتقدير صحيح للأمور، وفكر متقدم.. سريع النجدة والنخوة، طيب القلب، لين العريكة، مطبوعاً على الصراحة ووضوح المزاج. رحيماً بشعبه، حريصاً على وحدته وتعاونه وتوفير أمنه واستقراره، وتقدمه وازدهاره.
أما عقيدته القتالية، فقد جعلته صاحب مدرسة عسكرية متفردة بحق، حيرت حتى جنرالات العالم ومفكريه العسكريين والسياسيين على حد سواء، وقد تجلت بوضوح شديد في خطته العسكرية المحكمة لاستعادة الرياض، كما هو الحال في سائر معارك التوحيد التي كان يقود جيوشها بنفسه، تشهد بذلك ضربات السيوف وطعنات الرماح، بل حتى انفجار البارود الذي أخرج أمعاءه، فلم يجزع أو يستسلم، بل ربطها إليه بردائه وكتم الأمر عن الجميع، وأكثر من هذا: تزوج في تلك الليلة نفسها، استباقاً لأي إشاعة تكون دعماً لأعدائه وخصماً على معنويات جيشه وروحهم القتالية.
أجل، كان عبدالعزيز أسدى العرب رأياً، وأبلغهم حكمة، وأعدلهم حكماً، وأكبرهم كرماً وحلماً؛ قائداً يدرك جيداً شروط القيادية الميدانية من تخطيط واستعداد ومبادرة ومفاجأة وسرعة خاطفة وحشد وتنظيم للقوات ومثابرة، وتحديد للهدف وتركيز عليه، وثقة بالنفس وعمل جماعي يدعم بعضه بعضاً، واستغلال لكل فرصة تلوح في الأفق ليصنع منها إنجازاً يدهش الخصوم.
كان يعتز دائماً أنه مسلم أولاً وعربي ثانياً، شديد المنافحة عن حقوق العرب والمسلمين، حريصاً على اجتماع كلمتهم. وكانت سياسته: (بلاد العرب للعرب)؛ مؤكداً دائماً: (نحن جنود لخدمة الوطن العربي في كل بقعة من بقاعه، نشأنا على هذا، وسنظل عليه حتى ينال العرب جميعاً استقلالهم. أنا لا يهمني ترف الحياة، فطالما تركت الغذاء أياماً، وأنا أجاهد. والآن ما أزال مستعداً أن آكل يوماً وأجوع يوماً لتعيش بلاد العرب جميعاً).
وصفه البعض بـ(نابليون العرب)، و(بسمارك موحد ألمانيا)، و(جيم فارلي)، كما شبهه البعض بـ (معاوية بن أبي سفيان) في حلمه وبعد نظره وحسن حيلته في تصريف الأمور.. إلى غير ذلك من الأوصاف والألقاب التي استحقها عبدالعزيز بجدارة منقطعة النظير.
ولأنه كان يدرك جيداً ضرورة استمرار رسالة أسرته، فقد قرأ التاريخ ووضع خطة محكمة لتعزيز الإيجابيات وتفادي نقاط الضعف التي أدت لأفول دولة أسرته في الماضي؛ فهيأ أبناءه لحمل الراية من بعده.. وهكذا جاؤوا يمشون على الخطى: سعود، فيصل، خالد، فهد، عبدالله حتى هذا العهد الزاهر الميمون، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان. فكان كل خلف يضيف مزيداً من البنيان على إنجازات السلف، وصولاً إلى رؤيتنا الطموحة الذكية.
والحقيقة أوجز بولس سلامة صفات عبدالعزيز ومناقبه في قصيدة رائعة، في ملحمته الشهيرة التي ورد ذكرها آنفاً (ملحمة عيد الرياض) التي قال عنها الملك فيصل بن عبدالعزيز: (إن الذين شهدوا الوقائع لم يدركوها بأبصارهم، كما أدركها بولس سلامة بخياله).. أكتفي منها بالأبيات التالية:
عدلُ عبدالعزيز ردَّ إلى الصحراء
عدل الفاروق، بعد الأوان
مثله شدة وميلاً إلى الزهد
بسيط المعاش والديوان
لا بطيئاً ولا نؤوماً فلم تُشرق
ذكاء على تريف وان
يسبق الفجر للوضاءة فالركع
فأخذ الإبريق والفنجان
طيَّب النفس ناشطاً لمهمات
يعاني في حلها ما يعاني
فهو كالبحر: حاملاً ألف عبءٍ
ويُرى باسماً على الشطآن
صنوه غاضباً يناهض ظلماً
صنوه في بشاشة الرضوان
يسحر القوم سامراً وعشيراً
ويخافونه لدى الفوران
فيه من ثورة البراكين، لكن
ليس فيه أذية البركان
فهو كالنار، حين تلمح في الرعد
فتخلو من فحمة ودخان
خالص القول والسريرة، فوق المكر
فوق الذُحول والأضغان
وادعاً وارف الوقار حليماً
واسطاً بين شدة وليان
منشئاً وُلْدَهُ على خشية الله
وخلق كصفحة الهندواني
عالماً أنه يربي ملوكاً
لغدٍ واسع جليل الأماني
خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان:
يرى كثير من المؤرخين أن الملك عبدالعزيز أكثر الناس شبهاً بجده الإمام فيصل، بينما يرى فريق ثانٍ أنه أكثر الناس شبهاً بجده الإمام تركي بن عبدالله، غير أن الجميع متفق على أن قائدنا اليوم، ملك الحزم والعزم والرأي السديد والفكر المتقدم، سيدي الوالد المكرم الملك سلمان، أكثر الناس شبهاً خَلْقَاً وخُلْقَاً بالمؤسس والد الجميع. وعلى كل حال، تلك ذرية بعضها من بعض.
صحيح، معظمنا اليوم لم ير عبدالعزيز، لكننا رأيناه يمشي بيننا في شخص أبو فهد، حامل لوائنا اليوم، وقائد قافلة خيرنا القاصدة، وحادينا إلى المكرمات والعز والفخر والسؤدد. ومثلما أكد أبو فهد مراراً على أن التاريخ الكامل للملك عبدالعزيز لم يكتب بعد، كذلك يعجز الإنسان اليوم عن الحديث عن تاريخ ملكنا سلمان، الذي انتقلت بلادنا في عهده إلى مصاف الدول الكبرى في جميع المجالات، تضيء طريقها رؤية طموحة ذكية (2030)، هندسها ولي عهدنا القوي بالله الأمين أخي الأمير محمد بن سلمان.
أجل، بقدر ما هو اليوم بطل كبير، وفارس مغوار، وقائد جسور، وإداري فريد، نجد ملكنا سلمان موسوعة شاملة للعمل الخيري والإنساني والاجتماعي. شديد الحرص على خير مواطنيه، قريباً منهم في الأفراح والأتراح حتى مع هذه المسؤولية العظيمة؛ فلا يكاد أحدنا يفجع بمصيبة إلا ويجد سلمان إلى جواره أول المواسين، لاسيما مجالس عزائنا التي لا تفتقده أبداً. فيشد من أزرنا، وتفعل كلماته الصادقة العطوفة فعلها في قلوبنا، فنستمد منه الصبر والثبات. وإن اعترضت سبيل أحدنا شدة، أسرع سلمان لنجدته، وان استغاث ضعيف أو مظلوم هبَّ سلمان مسرعاً لإغاثته، وإن دمعت عينا يتيم كان سلمان أول السابقين لمسح تلك الدمعة، وتحويلها لابتسامة مشرقة لا تعرف الاستسلام واليأس، وإن شكا مريضنا كان سلمان أول الزائرين الحريصين على توفير كل سبل العلاج والراحة له، وإن ابتسمت الدنيا في وجه أحدنا طرب سلمان فرحاً له، وهبَّ لتهنئته والدعاء له بخير.
وصحيح، إن مسؤولية مقامه السامي الكريم تستغرق كل وقته، لكن ليس لطموح الرجل حد يقف عنده، فامتد خيره إلى البلدان العربية والبلدان الإسلامية وحيثما وجدت أقليات مسلمة في أي مكان من العالم. وقد تكللت جهوده في هذا الصرح الخيري العالمي، الذي يعد أكبر مؤسسة خيرية في العالم (مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية).
ولهذا نستطيع كلنا القول إن الملك سلمان هو قائد شامل. مثقف كبير، وقارئ نهم، نال بحظ وافر من كل العلوم والمعارف، لا سيما فيما يتعلق بالتاريخ، إذ يعد حجة في تاريخنا المجيد، يحفظه لحظة بلحظة، كأنه عاشه منذ بزوغ فجره الأول؛ كما يعد مرجعاً لأسرة آل سعود في شؤونهم كافة. ولهذا يصفه محدثكم دائماً بأن مقامه السامي الكريم مستودع إرثنا الحضاري والثقافي وذاكرة الوطن الموثوقة التي لا تشيخ أبداً.
أجل، سلمان قائد كبير وبطل همام، ورث عن والده وأجداده الكرام كل صفاته البطولية وخصاله الفريدة النادرة، من ذكاء متوقد وفراسة وقوة ذاكرة، وشجاعة ومروءة وكرم، ورأفة بالرعية، وشفقة بالضعفاء، وتقدير لقيمة الوقت والعمل والإنجاز والإبداع. ويشهد له الجميع أنه أول من يحضر لمكان العمل وآخر من يغادره، ولم يعرف قط أن معاملة بقيت على مكتبه حتى اليوم التالي. وقبل هذا وذاك، إيمان بالله لا يعرف الشك، ويقين بنصره وعونه وتوفيقه. فهو قائد همام يتمناه اليوم العرب كلهم كما أكد أخي (دايم السيف) في رائعته: (الحزم) إذ يقول:
احتزم سلمان بالحزم وحزمنا
وهدَّت صقور تسابق يذبحني
يوم سلمان العرب نهض وثبنا
وكل قرمٍ قال أنا كلِّي ومنّي
يا رفيع الراس يا صفوة عربنا
ضربتك واحدة وتفصل ما تثنّى
يوم ناديت العرب كل سمعنا
العرب تحتاج مثلك بالتمني
العرب تبي تسير الدرب معنا
سر.. تراك بكل عين وكل ظنّي
فالحمد لله المنعم الوهاب الذي قيَّض لنا قادة أوفياء مخلصين، ثم وهبهم كل صفات القيادة اللازمة، وهيأ لهم أسباب النجاح ووفقهم للخير وأعانهم على أداء رسالتهم؛ فأسسوا لنا هذا الوطن العتيد، ثم عكفوا على بنائه وتطويره ونمائه، فنقلوه من بيوت الشعر والطين واللبن، إلى أبراج شاهقة بمواصفات عالمية. ومن مدارس الكتاتيب، إلى جامعات تناهز أرقى جامعات العالم من حيث التصنيف العالمي. ومن الطب الشعبي والتجريبي، إلى طب الحشود الذي أذهل حتى طبيب العالم (منظمة الصحة العالمية) ترفده مستشفيات تخصصيه ومراكز أبحاث من أرقى ما عرفه العالم في هذا المجال. ومن ميزانية سنوية كانت تحمل في حقيبة، إلى ميزانية هائلة بالتريليونات. ومن مواصلات قوامها الفرس والبعير، إلى أساطيل نقل تعد اليوم من أضخم أساطيل النقل الجوي والبحري والبري وأرقاها وأكثرها توفيراً للراحة والرفاهية والأمان. ومن سقيا بالدلو والشادوف، إلى أكبر محطة لتحلية المياه في العالم، فارتوينا ماءً زلالاً، بينما يشرب غيرنا كدراً وطيناً، مع أن الأنهار العذبة الزلال والبحار تحيط بهم من كل جانب. ومن اقتصاد بسيط متواضع بالكاد يكفي لاحتياجات البلاد الداخلية، إلى عضوية مجموعة أكبر عشرين دولة اقتصادية في العالم (G 20)،وتوفير أكثر من ربع احتياجات العالم للوقود، عبر أضخم شركة للزيت في العالم، تضخ للأسواق ملايين البراميل يومياً. ومن الهجانة، إلى جيش نظامي حديث، يعد من أفضل الجيوش في المنطقة من حيث التعليم والتدريب والتجهيز بالعدة والعتاد والقدرة على المناورة والقتال؛ تجعل كل من يفكر في الاعتداء علينا، يعيد التفكير ألف مرة. فمن أخذته الحماقة ودفعه مشغلوه لتجريب غضبنا ردينا عليه الصاع طنَّاً، كما أكد أخي (دايم السيف)، في رائعته (الحزم) التي أشرت إليها آنفاً:
جرِّب الغضبات يا جاهل زعلنا
تحسب أن الحلم ضعفٍ يالحبنّى
ما استعبت الدرس من سابق زمنا
كم تحملنا من الغاشم تجني
ثم ردينا عليه الصاع طنَّا
لين جا يرغى عقب ما هو يغني
ويوم صاح الجار قمنا واستجبنا
والسعودي بالمواقف ما يمنّى
السعودي لا تنادوا قال حنَّا
من طعن أرض الوطن رمحه طعنّي
جاك رد الفعل يا مهدد وطنّا
خذ جواب الحرب دامك تمتححنّى
وهكذا ظل قادتنا الكرام ينقلون بلادنا من نجاح إلى تفوق، بالإيمان والعمل واليقين، والقدوة الصالحة في نكران الذات من أجل العقيدة والوطن والمواطن، حتى وصلنا إلى ما ننعم به اليوم في ظل رؤية طموحة ذكية، حققت نجاحات مدهشة، تنقل بلادنا باكتمال برامجها في (2030) إلى دولة كبرى.. فالحمد لله على ما أنعم، ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد دوماً لكي نكون كلنا عند حسن ظن قادتنا الكرام لكي نحتفل بإنجازاتنا العظيمة المتلاحقة، لا أقول كل عام، بل كل ساعة.. لوطنٍ نستحقه ويستحقنا.