إعداد - مرام العصيمي*:
الصحافة البطيئة Slow Journalism نشأت كثقافة فرعية إخبارية News Subculture خلال العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين في بريطانيا؛ وبذلك تُعد غربية المنشأ. ومع ذلك فإنه لا مانع من تبنيها على الصعيد المحلي؛ فمسببات ظهور هذا النوع من الصحافة له ما يبرره؛ وإذا عُرف السبب بطُل العجب!
دخول منصات التواصل الاجتماعي في عام (2004) كوسيلة اتصالية، وتنامي عدد تلك المواقع، وتبدل الأدوار المعتادة في العملية الاتصالية Communication Process بين المرسل والمستقبل تمثل عوامل رئيسة في الاتجاه نحو الصحافة البطيئة، حيث لم يعد الاتصال خطياً، وكذلك الجمهور لم يكن له أن يبقى متلقياً سلبياً كما كان سابقاً مع وسائل الاتصال الجماهيرية؛ فالتفاعل هو السمة الرئيسية لهذا العصر؛ ومن هنا باتت المؤسسات الصحفية والإعلامية ترزح تحت وطأة السبق الصحفي وملاحقة الأخبار وتدفق المعلومات الشديد والرغبة في البقاء ضمن المنافسة. ومجاراة تلك المنصات باتت هي الرغبة الخفية التي تؤرق المشتغلين بالصحافة، وعلى أثر ذلك دخلت أنماط جديدة على الخط، ومنها الصحافة المتأنية!
ما هي الصحافة البطيئة؟ ومتى ظهرت؟
في الحقيقة إن المصطلح أُدرج في قاموس Oxford للصحافة في فبراير من العام (2007) بعد أن نشرت الصحفية والأكاديمية Susan Greenberg المصطلح بمقال في ذات العام بمجلة شهرية بريطانية Prospect Magazin حيث يعود الفضل لها في بلورة المفهوم وابتكاره، وعرفته Greenberg ببساطة بأنه «السرد القصصي Storytelling المعني بالحقائق والمعلومات»؛ إذ ليس للعجالة مكان في هذا السرد؛ والتعريف الذي صاغته Greenberg يمثل سمات وخصائص الصحافة البطيئة. فالمادة الصحفية تأخذ وقتها في النضوج في مراحل العمل الصحفي كافة؛ أي منذ جمع المادة وكتابتها وتحريريها، ويُعطى كل الوقت لتلك الخطوات، مما يضمن مزيداً من الجودة والحرفية، ويعكس الاهتمام بالالتزام بالمعايير المهنية.
وبذلك يمكن القول إن الصحافة البطيئة ترفض الاهتمام بالسبق الصحفي، وتُفضل الموضوعات الرصينة والمعمقة، وبالتالي فهي تستهدف المواد التقريرية مثل التقارير والتحقيقات، بعيداً عن المنظومة الإخبارية بشكلها المألوف، وتعطي مثالاً قوياً للصحافة الناضجة التي تتمهل فيما تكتب وتنشر دون مزيد من السرعة.
أهداف الصحافة البطيئة
إن هدفها ببساطة يكمن في سعيها لكبح جماح المادة العاجلة والفورية، فهي وليدة المخاوف التي تتأتى من عدم مصداقية ما يُنشر بسبب ضغوط الوقت، بل إنها تعطي مجالاً للجمهور في الكشف عن كيفية الحصول على المعلومات والمصادر، وتُفصح كذلك عن مصدر الوثائق والأدلة التي تستند عليها في موضوعاتها.
المتبنون الأوائل لنموذج الصحافة البطيئة
في تلك الأثناء بدأت العديد من المحاولات في تبني وتفعيل الصحافة البطيئة من قبل الممارسين للمهنة؛ ظهرت مجلة بريطانية وهي Delayed Gratification «الإشباعات المتأخرة» كنموذج حي لهذا الشكل الحديث من الصحافة في يناير (2011)، وتعد بذلك أول من تبنى ذلك المفهوم عملياً، وهي بلا شك ليست يومية أو أسبوعية الصدور؛ فالمجلة شعارها بكل بساطة Last To Breaking News ولن أتحدث عن مضامين المجلة؛ إذ سأترك فرصة للقراء للاطلاع عليها عبر الإنترنت. ويكفي أن أشير إلى أن غلاف المجلة يتم تصميمه من قبل فنان، فيظهر الغلاف كقطعة فنية و«الكتاب كما يقولون واضح من عنوانه!».
لم يقف الأمر عند هذا القدر؛ حيث أدرك بعض من الأكاديميين أمثال البروفيسور Peter Laufer المتخصص بالصحافة بجامعة Oregon ضرورة أن يتم تناولها على الصعيد العلمي، حيث عمد إلى نشر كتابه في عام (2011) حول الصحافة البطيئة، ويمكن القول إن تلك هي بداية الاهتمام العلمي به.
لاحقاً تنامت الأصوات المؤيدة للصحافة البطيئة، وتكاثفت جهود الباحثين فيه، حتى يتم التأصيل له، وفي عام (2018) اهتمام الباحثين بالمصطلح لم يتوقف عند ذلك القدر، بل صبت الباحثة Jennifer Rauch اهتمامها في البحث؛ وتقصت عن الأسباب التي تجعل الإعلام البطيء مستداماً ويمتاز بالذكاء. وحازت Rauch على جائزة Silver Nautilus للكتاب.
وبالتالي يمكن التأكيد أن التجربة الغربية في هذا المجال لم تكن قاصرة على بريطانيا، بل إن الاهتمام الأمريكي بها يعُد لافتاً للنظر، وتعتبر كلا المدرستين معنيتين بالبحث عن كل ما هو جديد في هذا المجال.
وكباحثة معنية بمجال الصحافة خصوصاً، والإعلام والاتصال عموماً، لم أجد اهتماماً علمياً بهذا النوع، بل يمكن أن أشير إلى أني لم أجد إلا ورقة بحثية واحدة على حد علمي، ولذلك ما زلت أوصي بمزيد من الاهتمام البحثي والمهني بالصحافة البطيئة، لا سيما مع الحمل الزائد للمعلومات Information Overload وتُخمتها، والبيانات الضخمة Big Data والمتوقع لها أن تتنامى أكثر مع مؤشرات الثورة الصناعية الرابعة التي نعيشها، وكثرة الأخطاء المهنية التي بدأت تألفها الصحافة المحلية والناتجة عن نشر أخبار غير موثوقة، وعامل السرعة للفوز بالسبق الصحفي.
** **
* (أكاديمية وباحثة دكتوراه)
@dr_meems