حمّاد بن حامد السالمي
* مقبول.. هو الأخ والزميل والصديق العزيز الذي فقدناه قبل اثني عشر يومًا: (مقبول بن فرج الجهني) رحمه الله. موظف الدولة المثالي، والصحافي المهتم بهموم الناس منذ ستين عامًا، والخادم الصادق الأمين؛ لكل صاحب حاجة، ممن يعرف أو لا يعرف، حتى لو اضطُرّ للسفر من أجل هذه الخدمة برًا أو جوًا. ثم هو (مقبول الإنسان)، صاحب الخلق النبيل، والكرم، والشهامة، والوفاء المنقطع النظير. ومع أني من أصدقائه الخُلّص- الذين هم إخوانه كما يحب أن يسميهم دائمًا- منذ أكثر من خمسة وخمسين عامًا؛ إلا أني مهما قلت وتحدثت عن أبي خالد رحمه الله؛ فلن أوفيه حقه أبدًا. هذا.. وكنت قد ذكرت بعض سجاياه في حياته رحمه الله، مما هو قليل في حقه:
(https://www.al-jazirah.com/2019/20191027/ar2.htm).
* جاءني نبأ وفاته في حادث سيارة كالصاعقة. عمني الذهول، وعصفت بي الآلام، ومع مرور الساعات؛ لم يعد من أمل في كذب خبر شؤم كهذا:
طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ
حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً
شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي
* وهل نملك غير الدمع والتحسر على فقد من نحب..؟ ومقبول هو في طليعة من نحب ونعز. ألا.. ما أشد ألم الفقد والفرقة:
هيَ فُرْقَة ٌ منْ صَاحبٍ لكَ ماجِدِ
فغداً إذابة ُ كلَّ دمعٍ جامدِ
فافْزَعْ إلى ذخْر الشُّؤونِ وغَرْبِه
فالدَّمْعُ يُذْهبُ بَعْضَ جَهْد الجَاهدِ
وإذا فَقَدْتَ أخا ولَمْ تَفْقِدْ لَهُ
دَمْعًا ولا صَبْرًا فَلَسْتَ بفاقد
* يا سبحان الله.. قبل وفاته بثلاثة أيام؛ هاتفني معزيًا مرة أخرى في وفاة أخي الأكبر أبي صالح رحمه الله. قلت له مداعبًا: لك عندي قصة لطيفة من طرائف وقصص قبيلة جهينة في مهاجرها بالسودان ومصر والحبشة، فأنا أقرأ هذه الأيام كتابًا ضخمًا عن تاريخ قبيلة جهينة، سوف أرويها لك إذا رأيتك بجدة إن شاء الله. قال: إذا عدنا من أملج بالسلامة إن شاء الله. وكنا نلتقي كثيرًا في جدة، فنتسامر، ونتداول بعض القصص والطرائف مما يقال وينشر. ثم جاء مساء يوم الاثنين الحزين بخبر الفقد المؤلم، فما تيسر لأبي خالد سماع هذه القصة مني. والقصة كما وردت: أن جَمْرَة بن شهاب الجهني- مخضرم- له قصة مع عُمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ رويت في فوائد أبي القاسم بن بِشْرَان من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، قال: قال عمر بن الخطاب لرجل: ما اسمُك..؟ قال: جَمْرَة. قال: ابن مَنْ..؟ قال ابن شهاب. قال: ممن..؟ قال: مِنَ الحَرَقة. قال: أَيْنَ مسكنك..؟ قال: الحَرَّة. قال: بأيّها..؟ قال: بذات لظى. فقال عمر: أدْرِكْ أهْلكَ فقد احترقوا. فرجع الرجل فوجد أهله قد احترقوا..!
* ومقبول الجهني؛ شخصية محبوبة، ولها قبول حسن عند كبار القوم وصغارهم. يُجمع الناس كافة على حبه وقربه. ليس له خصومات مع أحد، بل له علاقات ود واسعة، وصنائع معروف لا تعد ولا تحصى، ولا تنسى أبدًا. لقد سمعت في مجلس العزاء بداره العامرة بطيب ذكره بجدة، ما يترجم قولهم: (الطيب عند ذكره)، وما يترجم قول الشاعر:
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ
لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ
* ذهب مقبول الأخ الكبير الذي زاملته في العمل، وعاشرته فساكنته وآكلته وجالسته أكثر من إخواني مجتمعين لأكثر من نصف قرن، وبقيت تأكيداته التي ترن في أذني: أنت أخوي.. فلان أخوي. ما أروع هذه الأخوة الصادقة، يوم كان أبو خالد يترجمها في أجل وأنصع معانيها:
أَخَاك أَخَاك لَا يذهلك عَنهُ
مطامعُ لن تزَال وَلَا رَجَاءُ
فإخوان الْفَتى فِي الأَمر زينٌ
وأركانٌ إِذا نزل الْبلَاءُ
* نعم.. هو إذن مقبول.. ذلك الأخ الأكبر لآلاف المحبين الذي كان يتفقدهم ويتابعهم ويقضي حاجاتهم:
كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَمْ يَلِدْهُ أَبُوكَا
وَأَخٍ أَبُوهُ أَبُوكَ قَدْ يَجْفُوكَا
صَافِ الكِرَامَ إِذَا أَرَدْتَ إِخَاءَهُمْ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ أَخَا الحِفَاظِ أَخُوكَا
كَمْ إِخْوَةٍ لَكَ لَمْ يَلِدْكَ أَبُوهُمُ
وَكَأَنَّمَا آبَاؤُهُمْ وَلَدُوكَا
* رحمك الله يا أبا خالد.. كم أنت كبير في أدبك وخلقك وقولك وفعلك. لم تعش لذاتك فقط، وإنما عشت لكل من حولك ممن عرفك فأحببته وأحبك. ما أعظم المثل التي تمثلت بها، والقيم التي جسدتها في حياتك:
الناس بالناس مادام الحياء بهم
والسعد لاشك تارات.. وهبّات
وافضل الناس ما بين الورى رجل
تُقضى على يده.. للناس حاجات
لا تمنعن يد المعروف عن احد
ما دمت مقتدراً.. والعيش جنات
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم.. وهم في الناس أموات