اشتهرت النساء السعوديات بتاريخهنّ المشرّف، فمنهنّ من قاتلت المحتل، ومنهن من تولّت مناصب قيادية في وقت من الأوقات، ومنهن من أنقذت قومها من الجوع؛ فعرفن بقوتهن وحكمتهن ورجاحة عقلهن وصبرهن.
ونعيش في هذه الأيام الاحتفال بيوم المرأة العالمي وتزامنه مع ذكرى تأسيس الدولة السعودية الأولى، وهي مناسبة وطنية عزيزة، وفي حديثنا عن يوم التأسيس وربطه بشخصية الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، نتطرّق لدور المرأة السعودية في إدارة كثير من الأزمات، ومواجهة التحديات التي عصفت بالدولة السعودية منذ نشأتها، وفي خضم تلك الظروف برز دور المرأة السعودية السياسي والإداري، وأحياناً العسكري، في مواجهة خصوم الدولة السعودية، وكان دائماً ما يتكلل دورها بالنجاح في أصعب الظروف الصعبة، والأمثلة في تلك المواقف المشرفة للمرأة السعودية كثيرة ومتعددة.
وأول ما يتبادر إلى الذهن هو دور زوجة الإمام محمد بن سعود (موضي بنت أبي وهطان) في اهتمامها بالعلم والتعليم والدعم الإنساني للضعفاء والمساكين والمحتاجين ولا أدل على ذلك من بناء ابنها الإمام عبدالعزيز لوقف عظيم في حي الطريف وهو سبالة موضي.
وموقف آخر للمرأة السعودية يرتبط بشخصية الإمام محمد بن سعود، في حادثة وقعت عام 1139ه/ 1727م، قبل أن يتولى إمارة الدرعية عندما غدر أمير العُيينة بضيفه أمير الدرعية زيد بن مرخان فقتله، وكان في رُفقته الإمام محمد بن سعود وآخرين لجؤوا إلى مكان حصين ولم يخرجوا منه إلا بأمان الجوهرة بنت عبدالله آل معمّر، فكانت سبباً في إنقاذ حياته.
ولم يقتصر دور المرأة السعودية على الأمور السياسية فحسب، بل شاركت في الكفاح والقتال في مواجهة الغزاة، ونذكر هنا موقف (غالية البقمية) الذي يشبه موقف نساء عظام في التاريخ، مثل (شجرة الدرّ) زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب في أثناء الحملة الصليبية السابعة، وهو أن غالية أخفت خبر وفاة زوجها وواصلت في إعطاء الأوامر للجيش كيلا تهبط معنويات أهالي تربة، ففي موقفها هذا فرضت نفسها بشجاعتها وقوتها وعزمها وإصرارها بوصفها امرأة مقاتلة ومحاربة استطاعت أن تتصدّى لقوات العثمانيين المعتدية التي كان هدفها إسقاط الدولة السعودية، فهُزمت قواته مرتين بسبب المقاومة الباسلة منها، وجراء تلك الصعوبات التي واجهها محمد علي في تربة قدم بنفسه إلى الحجاز قائداً للحملة الثانية، وهنا أمدّت غالية البقمية أبناء تربة بالمال والسلاح للصمود أمام القوات المعتدية، وهو جيش متطور جدّاً بمعايير ذلك الزمان مقابل ما لدى أهل بلدة تربة؛ فموقف غالية البطولي وسداد رأيها جعل جل اهتمام محمد علي هو أن يقبض على غالية، وكان من ضمن مخططاته أن تكون من ضمن الأسرى الذين يحملهم إلى مصر، ولكن غالية نجحت في الفرار من تربة ولم تعُد إليها إلا بعد انسحاب قوّات محمد علي من الجزيرة العربية.
وبمثل هؤلاء النساء السعوديات - موضي بنت أبي وهطان، والجوهرة المعمر، وغالية البقمية - يتضح لنا أنّ المرأة لم تكن غائبة عن مجالس الرجال، ولم تكن غائبة عن الحدث، بل شاركت في رأيها وبمواقفها التي تبيّن رجاحة عقلها وحكمتها.
ولا تقلّ شأناً عنهن موضي بنت سعد الدهلاوي من أهل الرس التي عاشت في زمن شهدت فيه الدولة السعودية تغيرات سياسية ودينية حاسمة، وهي امرأة كانت تتمتع بشجاعة فائقة، فقد كانت من أبناء الرس الذين صمدوا في مواجهة حصار إبراهيم باشا سنة 1232ه/ 1817م، واشتهرت موضي بقصائد حماسية يحفل بعضها بمعاني تدلّ على الاعتزاز والولاء للدولة السعودية، وأسهمت في تحفيز المدافعين عن الرس وحثهم على الصمود والتصدي للجيش الغازي، وكانت تثير حماس رجال الرسّ للدفاع عن أرضهم في هذه القصيدة:
هيه يا راكب (ن) حمرا ظهيره
تزعج الكور نابية السنام
سر وملفاك هل العوجا مسيره
ديرة الشيخ بلغه السلام
يا هل الحزم يا نعم الذخيرة
إن لفاكم من الباشا علام
ادعوا الله ولا تدعون غيره
واعرفوا ما من الميتة سلام
الفرنجي إلا قمنا نكيله
تلفظه مثل سيقان النعام
عند سوره تخلى كالمطيرة
إلى استلذ الردى حلو المنام
ما نقلنا السيوف اللي شطيرة
كود للحرب في وقت الزحام
ويعد موقفها هذا جزءاً من الموقف البطولي لأهل الرس الذين تمكّنوا من فرض شروطهم التي نتج عنها الصلح، وعلى إثرها دخل إبراهيم باشا الرس دون قتال. وليس بمستغرب ما فعلته المرأة السعودية المقاتلة والمحاربة في الدفاع عندما يتعلق الأمر بقضية تمسّ أراضيها أو قبيلتها أو حتى عشيرتها، مثل المواقف المشرفة التي كانت للمرأة المسلمة في معركة اليرموك، مثل خولة بنت الأزْوَر أخت البطل ضرار، وهند بنت عتبة زوج أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً، فعندما كانت بعض الألوية تتراجع تحت ضغط أعداد الرومان الهائلة كانت النساء يحملن أعمدة الخيام ويضربن بها وجوه المقاتلين وخيولهم لإعادتهم إلى القتال، وما زال ذلك الصمود مستمرّاً بين نساء الجزيرة العربية حتى إنه في وقت من الأوقات عُرف من النساء من سميت العطافة أو العمارية، وهي فتاة تُختار في المعارك من بين بنات القبيلة تجلس في هودج متزينة كاشفة عن وجهها تحثّ أبناء قبيلتها وتحمّسهم على القتال، وتشجعهم على التقدّم في حربهم، وتحذرهم من التراجع، ودائماً ما تكون عُرضة للخطر؛ لأن العدو يقصدها بغية إسكاتها، فهي تحثهم وتقوّي عزائمهم على هزيمة عدوهم، ومن أبرز «العطافات» في الجزيرة العربية حصة الحميدي الهذال التي أقيم من أجلها (مناخ حصة) المشهور في التاريخ عام 1238هـ/ 1822م.
ويعدّ موقف هويدية بنت غيدان آل شامر من أعظم المواقف في مناصرة الإمام تركي بن عبدالله (مؤسس الدولة السعودية الثانية) في أصعب الأوضاع التي واجه بها الأعداء، فكانت سنداً له وعوناً، إذ صادفها وهي ترعى غنمها بالقرب من مخبئه في غار في جبل علية، فرغب أن يُذهب عنها الخوف والشك فيه فحدّثها بلهجة عشيرتها فاطمأنت إليه وإلى سمات الرجولة فيه، فما كان منها إلا أن أخذت تسقيه كل يوم من حليب غنمها، وانتهى الأمر إلى أن خطبها وتزوجها فيما بعد، وأنجب منها ابنه جلوي وهو اسم مشتقّ من الجلاء (أي عن بلده)؛ لأنه ولد في جلوته من بلده، وكان لهويدية أثر في ابنها جلوي الذي كان ساعداً أميناً لأخيه الإمام فيصل بن تركي (1250-1254هـ/ 1834 - 1838م)، كما أن ذريته تسمى عند انفرادها آل جلوي في أسرة آل سعود، وبقيت هويدية محل اعتزاز وفخر لأحفادها.
ومن أبرز الشخصيات الملهمة في تاريخ دولتنا المعاصر الجوهرة بنت فيصل بن تركي آل سعود، عمّة الملك عبدالعزيز، وهي نموذج فريد من الشخصيات التي قال عنها الملك عبدالعزيز: «دائماً تؤكد لي أنني ذلك القائد الذي سوف تجد معه شبه الجزيرة العربية كل عزة وتمكين»، حيث كانت تردّد على مسامعه: «عليك أن تحيي عظمة بيت ابن سعود». وكان لرأيها الحكيم بتشجيع الملك عبدالعزيز على استرداد الرياض أثر عميق في نفس الملك عبدالعزيز، وظل على الدوام يؤكد أنها المرأة الوحيدة التي كان لها تأثير قوي في مسار حياته، وأختها نورة بنت الإمام فيصل بن تركي شخصية مؤثرة جدّاً ، وكانت لها مواقف في وقت انتهاء الدولة السعودية الثانية، إذ حاولت أن تلم هذا الشتات بقدر جهدها ولكنها لم تستطيع.
وأما الأميرة نورة بنت عبدالرحمن أبرز شخصية ملهمة بتاريخها الحافل بالمواقف، إذ عايشت أحداث انتهاء الدولة السعودية الثانية، وكانت كذلك مع الملك عبدالعزيز عند تأسيس الدولة المعاصرة، وتعد الصديق المؤتمن في حياة الملك عبدالعزيز، فأسهمت الأميرة نورة في دعم البيت السعودي الحاكم وحافظت على تماسك الأسرة ووحدتها؛ لأنها رأت ذلك أمراً مطلوباً لكي يكون أساس الدولة السعودية قويّاً وصلباً، وتعدّ الأميرة نورة من الرموز الوطنية التي أسهمت في جوانب عدة، وقد نالت شهرة واسعة داخليّاً وخارجيّاً، فذكرها بعض المؤرّخين والباحثين المحليين والعرب، وبعض الرحالة الأجانب، كما أشار إليها بعض الدبلوماسيين الذين كانت لهم علاقة بالمملكة.
إن قدرة المرأة السعودية على التحدي والصمود ما هو إلا امتداد للمرأة العربية في الجزيرة العربية، فهي مثال يحتذى به في الذكاء وجمال الروح والأخلاق العالية، ولعل هذه الصفات هي التي تميزها فعلاً عن سائر نساء العالم في تضحيتها وعطائها ودعمها، وعلاوة على قلبها الكبير وعطفها الدائم والصادق فهي محل حفاوة وتقدير بدأ منذ يوم التأسيس ولم يتوقف؛ لأهمية دورها في بناء المجتمع والوطن، وتبوأت أماكن بارزة في الدولة، فعُينت في منصب مساعد رئيس مجلس الشورى، ولم يقتصر دورها على الشأن الداخلي بل تعداه إلى توليها لأول مرة في المملكة منصب «سفير»، ودورها الحالي سفيرةً ومديرةً ونائبةً ما هو إلا امتداد لكل مواقفها البطولية عبر صفحات مضيئة من تاريخ وطننا الغالي.
ولا يفوتني في هذا المقام تقديم تحية تقدير للأكاديمية والصديقة العزيزة الدكتورة أريج الحقيل وكيلة عمادة التعاملات الإلكترونية في جامعة الملك سعود، ولكل أعضاء هيئة التدريس على ما قدّموه لي خلال دراستي الأكاديمية في مرحلة البكالوريس والماجستير والدكتوراه، وأخصّ بالذكر أستاذاتي الكريمات عضوات هيئة التدريس في جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن في قسم التاريخ، وفي مقدمتهن الدكتورة دلال الحربي، والدكتورة شريفة المنديل، والدكتورة هيلة القصير، والدكتورة حصة الهذال، والدكتورة نورة القعود، والدكتورة منى الغيث، والدكتورة صيتة السرحان، والدكتورة هيلة البليهي، وأستاذاتي الفاضلات اللاتي التقيت بهنّ في مرحلة الماجستير ومرحلة الدكتوراه في جامعة الملك سعود، وفي مقدمتهن الدكتورة إلهام البابطين التي كان لمساندتها ودعمها بالغ الأثر، والدكتورة العزيزة مها الرشيد التي رافقتني في مرحلتي إعداد خطة الرسالة في برنامجي الماجستير والدكتوراه، والدكتورة سعاد العمري، والدكتورة هدى الزويد، والدكتورة نورة الحامد، والدكتورة موضي السرحان، والدكتورة سلمى هوساوي، والدكتورة عواطف السلامة، والدكتورة حصة الجبر، والدكتورة منيرة الشرقي، ورحم الله الدكتورة نورة النعيم الغائبة والحاضرة في قلوبنا، ولجميع عضوات وأعضاء قسم التاريخ في جامعة الملك سعود وجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن.
وفي الختام؛ الشكر والعرفان لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - على إعلان القرار الملكي باعتماد يوم 22 فبراير من كل عام ذكرى لتأسيس الدولة السعودية، وهي مناسبة نقرأ فيها مسيرةَ وطنٍ عُمرها ثلاثة قرون، ونستحضر عمق الدولة السعودية التاريخي والحضاري الذي بدأ في عام 1727م، وامتدّ طوال هذه المدة التاريخية الحافلة بالإنجازات التي تعيش المرأة السعودية كذلك تفاصيلها اليوم في مرحلة مضيئة من تاريخها.
** **
بقلم: مشاعل عيد الرويلي - باحثة دكتوراه - جامعة الملك سعود